عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رجلاً قال للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: أوصني، قال: ”لا تغضب”، فردّدها مرارًا وقال: ”لا تغضب”، فهنيئًا لمَن امتثل هذه الوصية وعمل بها. لاشكّ أنّ هذه الوصية نافعة لجميع المسلمين. قال الشّيخ عبد الرّحمن السّعدي رحمه الله: هذا الرجل ظنّ أنّها وصية بأمر جزئي، وهو يريد أن يوصيه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بكلام كلّي، ولهذا ردّد. فلمّا أعاد عليه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم عُرف أنّ هذا كلام جامع. وقوله: ”لا تغضب” يتضمّن أمرين عظيمين: أحدهما: الأمر بفعل الأسباب والتمرّن على حُسن الخُلق والحِلم والصّبر، وتوطين النّفس على ما يصيب الإنسان من الخَلْق من الأذى القولي والفعلي؛ فإذا وُفّق لها العبد وَوَرَدَ عليه وارد الغضب احتمله بحُسن خلقه، وتلَقاه بحلمه وصبره، ومعرفته بحسن عواقبه.. والثاني: الأمر - بعد الغضب - أن لا يُنفذ غضبه: فإنّ الغضب لا يتمكّن الإنسان من دَفعه وَرَدِّه غالبًا، ولكنّه يتمكّن من عدم تنفيذه. فعليه إذا غضب أن يمنع نفسه من الأقوال والأفعال المحرّمة الّتي يقتضيها الغضب. فمتى منع نفسه من فعل آثار الغضب الضّارة فكأنّه في الحقيقة لم يغضب. وبهذا يكون العبد كامل القوّة العقلية، والقوّة القلبية. وهذه الوصية الجليلة كم نحن بحاجة إليها في حياتنا اليومية، وبالأخص في أيّامنا الرّمضانية، فالنّاظر في سلوكياتنا تجاه أبنائنا وإخواننا وآبائنا وأمّهاتنا وجيراننا وسائر مَن حولنا يجد أنّ الغضب قد أخذ حصّة الأسد من تعاملنا وخلقنا، وأنّ الغضب استولَى على قلوبنا وعقولنا، فشرارة الغضب تسبق الحِلم في أغلب الأحيان خاصة في أيّام رمضان، لذلك تجد الخصومة في كلّ مكان. إنّ الغضب عدوّ العقل، والغضب ينسي الحُرمات، ويدفن الحسنات، ويخلق للبريء جنايات، فلابدّ من ترك الغضب، ونقصد بذلك سرعة الغضب وإنفاد ما ينجرّ عنه، لأنّ الغضب منه ما هو محمود ومنه ما هو مذموم، والغضب لا يسلم منه أحد، ومن ليس له غضب فإنّ به أحد العيوب، لكن سرعة الغضب والغضب في غير محلّه هما المذمومان وهما المقصودان بالتّرك والدّفع، فسرعة الغَضَب آفة خطيرة، فربّما يعتدى المرء على غيره بلسانه أو بيده ثمّ يندم بعد ذلك، وسرعة الغضب رذيلة شرّيرة إذا استشرت في مجتمع قوّضت بنيانه، وهدّمت أركانه، وأصبح المجتمع في بلاء جسيم، وإلاّ فبماذا نفسّر تفكّك المجتمعات المسلمة بعد توحّد، وانتشار العداوة بعد تودّد، وفشو الشّقاق، وتقطّع العلاقات على كافة الأصعدة. فكثيرا ما نسمع أنّ والدًا قتل ولده، أو ولدًا قتل والده بسبب الغضب نعوذ بالله من ذلك، وكم ضاع من خير وأجر وفضل بسبب الغضب، وكم حلّت من مصيبة ودمار وهلاك بسبب الغضب، وبسبب ساعة غضب قُطّعت الأرحام، ووقع الطّلاق، وتهاجر الجيران، وتعادى الإخوان. فلنجتنّب الغضب خاصة في رمضان ولنتدرّب على ذلك، لأنّ الغضب يتنافى وآداب الصّيام، ففي لحظة الغضب والخصومة يجتنبهما الصّائم ويقول: اللّهمّ إنّي صائم، وبما أنّ الغضب يؤجّجه الشّيطان، لقَول رسول الله صلّى اللهُ عليه وسلّم: ”إِنَّ الْغَضَبَ مِنْ الشَّيْطَانِ، وَإِنَّ الشَّيْطَانَ خُلِقَ مِنْ النَّارِ، وَإِنَّمَا تُطْفَأُ النَّارُ بِالْمَاءِ، فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ”. لكن في رمضان تصفّد الشّياطين، فلماذا يزداد النّاس في رمضان غضبًا؟ ولماذا تستعر بينهم في رمضان العداوة وتشتدّ الخصومة وهو شهر الرّحمة؟ ولماذا يغضب الواحد منّا في رمضان لأتفه الأسباب وهو شهر الصّبر؟ نعم؛ في رمضان تصفّد الشّياطين، فلا تبقى إلاّ نفس الإنسان وما عوّدها عليه، فللطّباع أثر في سلوكيات النّاس في سرعة الغضب أو قلّته، فإن كان المرء عوّد نفسه الغضب والانتقام فلا يجني إلاّ النّدم والملام، فسرعة الغضب في رمضان لا تدلّ إلاّ على أنّ نفس الغاضب لم يهذّبها، وإنّما دسّها ولم يزكّها، فهيا بنا نزكّها ونُصلحُها، ونعلّمها السّماحة والحِلم، والعفوَ والصّفح، والإحسان وكظم الغيظ، فبمجاهدة النّفس وضبطها واكتساب الفضائل الحميدة تسلَم من الوقوع في سوءات الغضب ومصائبه، فهذه الأخلاق العظيمة لابدّ من تجديدها فهي تكاد تندثر في مجتمعنا. *إمام مسجد الشّهداء – بوروبة