شعراء يتحدثون عن وظائف الشعر الخلقية - د. وليد قصاب
شعراء يتحدثون عن وظائف الشعر الخلقية
يقول عبدالكريم النهشلي - أستاذُ ابن رشيق - متحدثًا عن فرح القبيلة العربية بميلاد شاعر فيها: "كان الشاعر في الجاهلية إذا نبغ في قبيلة ركبت العرب إليها فهنَّأتها به؛ لذبِّهم عن الأحساب، وانتصارهم به على الأعداء، وكانت العرب لا تهنِّئ إلا بفرس مُنْتَج، أو مولود ولد، أو شاعر نبغ"[1].
إن هذه البهجة بالشاعر إذًا هي بسبب الإدراك العميق لخطر دوره، وقدرته على القيام بوظائف جُلَّى: سياسية، واجتماعية، وتربوية، وخُلقية، وغيرها.
وعلى الرغم من أن طائفة من الشعراء العرب قد أخلفت ظن المجتمع فيها، فانحرفت بشِعرها إلى أغراض سفَه وطيش ومجون وعبث، وغمسته في أغراض التكسب، والمتاجرة المادية بالكلمة، أقول: على الرغم من هذا، كان هنالك طائفة أخرى بقيت عند حسن الظن؛ آمنت أن الكلمة - والشِّعرُ أرقى محفل لتجليها - أمانة ومسؤولية، وأن شاعر الحق يجاهد بالكلمة مثلما يجاهد الفارسُ بالسيف، فكان شعرهم على نحوِ ما وصفه سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه، وهو يوجِّه أبا موسى الأشعري أن يأمر مَن قِبله بتعلم الشعر - كلامًا: "يدل على مكارم الأخلاق، وصواب الرأي.."[2].
عبَّر كثير من الشعراء عن تقدير لدور الشعر؛ فهو - كما يقول حسان بن ثابت رضي الله عنه - لبُّ المرء، ولا يجوز للب المرء الحكيم أن يعرض إلا حقًّا وصدقًا، وذلك هو أشعر القول:
وإن أشعرَ بيتٍ أنت قائلُه
بيتٌ يقال إذا أنشدتَهُ: صَدَقا
وإنما الشعرُ لب المرء يعرضُه
على الخلائقِ إنْ كيْسًا وإنْ حمقَا[3]
ودعا عمرو بن شأس الشاعر ألا يكون كحاطب ليل يقول كل ما يخطُرُ في باله، فيخلط حقًّا وباطلاً، وصدقًا وكذبًا:
أيها المرءُ الذي ليس منصتًا
ولا قائلاً: إن قال حقًّا ولا عَدْلا
إذا قلتَ فاعلَمْ ما تقول ولا تكنْ
كحاطبِ ليلٍ يجمع الدقَّ والجزلا[4]
ويدعي الأعشى أن الذي قدمه على غيره أنه لا يقول إلا عن عِلم وصدق:
وفضَّلني في الشعر واللب أنني ♦♦♦ أقول على عِلم وأعلم ما أعني[5]
إنها طائفة من الشعراء - إنْ صدقت - "لا تهيم في كل وادٍ " بحسب التعبير القرآني، بل تلتزم الحقَّ والعدل.
وعبَّر غيرُ قليل من الشعراء العرب عن تصورهم لدور اجتماعي تربوي خُلقي ينهض به الشِّعر، يتمثَّل في الدعوة إلى محمود الصفات، ومكارم الأخلاق، وهنا يبدو الشاعرُ كالمصلِح المربِّي، يعشق الحق والخير، ويدلُّ عليهما.
صوَّر أبو تمام الشعر راسمًا طريق المكارم، مسموع الكلمة، نافذ الحكم، قال:
ولولا سبيلٌ سنها الشعر ما درى
بُغاةُ العلا من أين تؤتى المكارمُ
ترى حكمة ما فيه وهو فكاهةٌ
ويُقضى بما يَقضي به وهو ظالمُ[6]
وتحدث البحتري عن نظرة مماثلة إلى دور الشعر، وأن قوافيه تدل على المناقب:
تدارك شمل الشعر والشعر شارد الش
شوارد مرذول غريب الغرائبِ
فضم قوافيه إليه تيقنًا
بأن قوافيه سلوك المناقبِ[7]
وأما ابن الرومي فقد عبر عن هذا الدور بشكل أعمق، فرأى الشعر يُحيي المجد والبأس، ويبني النفوس، ويجبُلُها على الخير والرفعة، ولولاه لكانت أعظُمًا نخراتٍ، يقول:
أرى الشعرَ يُحيي المجد والبأس بالذي
تبقِّيه أرواحٌ له عطراتُ
وما المجد لولا الشعر إلا معاهد
وما الناس إلا أعظمٌ نخراتُ[8]
وتحدث أبو العلاء عن وظيفة خُلقية نفسية للشعر، تتمثل في تشجيع الجبان، وتذكير الناسي، وعطف قلب الكاشح القالي، قال الكلاعي: "قال أبو العلاء: لا تجهلوا فضيلةَ الشعر؛ فإنه يذكِّر الناسي، ويحلُّ عزمة الفاتك، ويعطف مودة الكاشح، ويشجِّع الجبان:
وإن أشعرَ بيتٍ أنت قائله ♦♦♦ بيتٌ يقالُ إذا أنشدته: صَدَقَا
صدق أبو العلاء..."[9].
ووضح الأعشى إمكانيةَ استثمار طاقة الشعر - في الانسراب إلى النفس، والنفاذ إلى طواياها - في حملِها على الخير، واستنزالها إلى الجود والكرم، كما ينزل رعد السحابة السبَل، يقول:
والشعر يستنزل الكريم كما ♦♦♦ يُنْزِل رعد السحابة السبَلا [10]
وتحدث شعراءُ عن وظيفة اجتماعية أخرى للشعر تتمثل في الدفاع عن القوم، والمحاماة عنهم؛ قال الفرزدقُ:
أذود وأحمي عن ذِمار مُجاشِعٍ ♦♦♦ ما ذاد عن حوضَيْ أبيه المخبلُ[11]
وقال في موضع آخر:
أنا الشاعر الحامي حقيقةَ قومه ♦♦♦ ومثلي كفى الشر الذي هو جارمُهْ[12]
ودعا الفرزدق الحارث بن نهيك إلى أداء هذه الوظيفة بقوله:
إلى الأصلع الحلاف إن كنتَ شاعرًا ♦♦♦ فذببْ، فما هذا بحينِ لُغوبِ[13]
وأعلن هدبة بن خشرم قبَلية شعره، وأنه موظف في المحاماة عن العَشيرة، وإذا ترفع عن سفيه قومه فلم يهجُه، فلن يسكت عمن يهجو قومه، صونًا لهم، وذبًّا عنهم، يقول:
سأهجو مَن هجاهم مِن سواهم ♦♦♦ وأُعرِض منهم عمَّن هجاني[14]
وهكذا عرَف الأدبُ العربي طائفةً من الشعراء ذاتَ منزِع نقديٍّ دِيني خُلقي، برز في حديثها عن وظيفة الشعر، وما يمكن أن ينهض به من دور اجتماعي تربوي إصلاحي، يهذِّب النفس، ويدعو إلى مكارمِ الأخلاق، ومحمود الصفات، يرسِّخ قِيَمَ الحق والصِّدق، وهو عندئذٍ القولُ الجدير بالتعلُّم والحِفظ والتداول كما بينت ذلك طائفةٌ من الصحابة والخلفاء والعلماء الذين نأمُلُ أن تتاح لنا فرصةٌ لعَرْض أقوالهم.
[1] اختيار الممتع في علم الشعر وعمله: ص 25.
[2] العمدة، لابن رشيق: 1/28.
[3] السابق: 1/114، وينسب إلى زهير.
[4] ديوان شعره: ص 45.
[5] عيون الأخبار، لابن قتيبة: 1/277.
[6] اختيار الممتع: 1/88.
[7] السابق:1/132.
[8] السابق نفسه.
[9] إحكام صنعة الكلام للكلاعي: ص 45.
[10] العمدة: 1/15.
[11] ديوانه: 516.
[12] السابق: ص 766.
[13] السابق: ص 40.
[14] شعر هدبة: ص 146.
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/literature_language/0/103583/#ixzz4JmhMYimC