خلق الله الإنسان لحكمة ولم يخلقه عبثا
خلق الله الإنسان لحكمة ولم يخلقه عبثا
د. سمير مثنى علي الأبارة
خلق الله الإنسان لحكمة ولم يخلقه عبثاً
إن الخالق الحكيم قد خلق الإنسان لحكمة بينها في كتابه الكريم حيث قال تعالى: ﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ﴾ [1] أي أظننتم أنكم مخلوقون عبثاً بلا قصد ولا إرادة منكم ولا حكمة لنا، ﴿ وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾ أي: لا تعودون في الدار الآخرة، كما قال: ﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ﴾ [2] يعني هملا، وقوله: ﴿ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ ﴾[المؤمنون: 1166] أي: تقدَّس أن يخلق شيئاً عبثاً، فإنه الملك الحق المنزه عن ذلك: ﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ﴾، فذكر العرش؛ لأنه سقف جميع المخلوقات، ووصفه بأنه كريم، أي: حسن المنظر بهي الشكل[3].
فالإنسان مخلوق من مخلوقات الله، محتاج إلى سنة يسير عليها في جميع أحواله، ليسعد في الدنيا والآخرة، وهذه السنة هي الدين الذي أكرمه الله به ورضيه له، وسعادته أو شقاوته مبنية على مدى تمسكه به، أو إعراضه عنه، وهو مختار في قبوله أو رده كما قال سبحانه: ﴿ وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا ﴾ [4] أي: لم يبق إلا سلوك أحد الطريقين، بحسب توفيق العبد، وعدم توفيقه، وقد أعطاه الله مشيئة بها يقدر على الإيمان والكفر، والخير والشـر، فمن آمن فقد وفق للصواب، ومن كفر فقد قامت عليه الحجة، وليس بمكره على الإيمان[5].
وكذلك لولا التكليف لكان خلق الإنسان عبثاً وسدى، والله يتعالى عن ذلك، وقد نزه نفسه عنه، كما نزه نفسه عن العيوب والنقائص.
لكن الكافر يزعم أن الإنسان خلق عبثا!! وهو بهذا يتهم خالقه بالعبث، سبحانه وتعالى عما يقول الكافرون علواً كبيراً. ولو قيل للكفار إن أطباءهم يعبثون في أعمالهم لسخروا من هذا القول، وقالوا: وهل يعبث الذي يصلح الخلل في أعينكم وأفواهكم وأمعائكم وقلوبكم إن أصيبت بالمرض؟ إن أطباءنا أجل وأعلا من أن يظن بهم العبث. فنقول لهم: صدقتم، إن الذي يصلح الخلل ويعالج المرض في أعضاء الجسم لا يعبث. ولكن كيف تزعمون أن خالق العيون والأفواه والأمعاء والقلوب يعبث في خلقه؟! إنه سبحانه أجل وأعلا من أن يظن به العبث، وإنما هؤلاء محجوبون عن معرفة حقيقة القدرة الإلهية، كما قال تعالى: ﴿ وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا ﴾ [6] يقول تعالى ذكره: وإذا قرأت يا محمد القرآن على هؤلاء المشـركين الذين لا يصدقون بالبعث، ولا يقرّون بالثواب والعقاب، جعلنا بينك وبينهم حجابا، يحجب قلوبهم عن أن يفهموا ما تقرؤه عليهم، فينتفعوا به، عقوبة منا لهم على كفرهم. والحجاب ههنا: هو الساتر[7].
فذكر سبحانه الذين لَا يؤمنون بالآخرة؛ لأن الذين لا يؤمنون بالبعث تجمدت قلوبهم على الحس فلا يؤمنون بغيره، لأنهم يحسبون أنه لا حياة غير هذه الحياة، فيرتقبون ويلعبون ويلهون وكأنما خلق الإنسان عبثا، وذلك أداهم إلى الكفر فصاروا لَا يؤمنون بشيء.
وقد أكد سبحانه وتعالى هذا المعنى وهو ستره عنهم وكونهم محجوبين عنه بقوله تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا ﴾ [8] يقول تعالى ذكره: وجعلنا على قلوب هؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة عند قراءتك عليهم القرآن أكنة، وهي جمع كِنان، وذلك ما يتغشَّاها من خِذلان الله إياهم عن فهم ما يُتلى عليهم ﴿ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا ﴾ يقول: وجعلنا في آذانهم وقرا عن سماعه، وصمما، والوَقر بالفتح في الأذن: الثقل. والوِقر بالكسر: الحِمْل. وقوله: ﴿ وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ ﴾ يقول: وإذا قلت: لا إله إلا الله في القرآن وأنت تتلوه ﴿ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا ﴾ [الإسراء: 466] يقول: انفضوا، فذهبوا عنك نفورا من قولك استكبارا له واستعظاما من أن يوحِّد الله تعالى[9].
ويصح أن نقول إن الكلام السامي ممثل لحالهم في عدم فقههم للقرآن وعدم سماعهم لآياته سماع فهم وتدبر وتعرف لبلاغته بحال من جعل اللَّه تعالى على قلبه غشاوة فلا يصل إلى الحق، وحال من في آذانه ثقل فلا يسمع، ثم يصور سبحانه نفورهم من الحق وتأثرهم بالأصنام التي جعلتهم يعتقدون فيها الألوهية فقال تعالى:﴿ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا ﴾[10]وإذا ذكرت ربك الذي خلقك وخلقهم وحده من غير ذكر آلهتهم على أنه المتفرد وحده بالألوهية اعتراهم إعراض أشد، فأعرضوا سائرين على أدبارهم نافرين من الحق كما يفر ذو الرمد من ضوء الشمس، أي يسارعون بالتولي والإعراض نافرين مدبرين، سائرين بظهورهم لَا بإقبالهم، وهذا النص يصور شخصا رأى شيئا فهاله ما رأى فولى مدبرا، رجع مدبرا نافرا كأنه رأى شيئا مخيفا، اقشعر له بدنه، وهذا يصور مقدار نفورهم من التوحيد الحق، وإقبالهم على الوثنية الباطلة، فالأوهام التي سكنت في نفوسهم صورت لهم الحق مخوفا مرهوبا، والباطل طيبا حسبوا فيه السلامة وما وراءه إلا الحسـرة والندامة وساء ما كانوا يصنعون.
كل هذه المعاني تدل على أن هذه النفوس التي تنفر من الحق هذا النفور نفوس مريضة، عرتها آفة حولتها عن الحق وصـرفت فطرتها وطمست فؤادها[11].
[1] سورة المؤمنون:115-116.
[3] تفسير القرآن العظيم لابن كثير(ج5 - ص 55).
ابن كثير :- هو الإمام الحافظ أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي من بني حصلة. ولد سنة إحدى وسبعمائة، في قرية «مجدل» من «بصرى»، وقد شهد القرن الثامن الهجري في ظل دولة المماليك أبام التتار والصليبيين. شيوخه: درس الإمام ابن كثير على أيدي المئات من الشيوخ، ترك الحافظ ابن كثير عشـرات المؤلفات في شتى الميادين العلمية، في التاريخ والتفسير والحديث. ، وفاته: توفي ابن كثير في يوم الخميس 26 شعبان من سنة 774 هـ، ( موسوعة مواقف السلف في العقيدة المغراوي ج 8 - ص 374).
[5] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان عبدالرحمن السعدي (ج1 - ص475). المؤلف: عبدالرحمن بن ناصر بن عبد الله السعدي (المتوفى: 1376هـ)، المحقق: عبدالرحمن بن معلا اللويحق، الناشـر: مؤسسة الرسالة، الطبعة: الأولى 1420هـ -2000 م.
[7] جامع البيان في تأويل القرآن للطبري (ج17 ـ ص457). المؤلف: محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري (المتوفى: 310هـ)، المحقق: أحمد محمد شاكر، الناشـر: مؤسسة الرسالة، الطبعة: الأولى، 1420 هـ - 2000 م.
الطبري هو أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب، ولد في طبرستان سنة مائتين وأربع وعشـرين للهجرة،. وقد تحدث عن أمره في حداثة سنه فقال: "حفظت القرءان ولي سبع سنين، وصليت بالناس وأنا ابن ثماني سنين، وكتبت الحديث وأنا ابن تسع" أشتُهِرَ عند كثير من العلماء غزارة علم الإمام وكثرة مؤلفاته في العلوم المختلفة ، توفي في بغداد برحبة يعقوب يوم السبت ليومين بقيا من شوال سنة ثلاثمائة وعشر للهجرة، ودفن يوم الأحد في داره. (اللسان (5/ 100 - 103) والسير (144/ 267 - 2822).
[9] جامع البيان في تأويل القرآن للطبري (ج17 - ص458).
[11] زهرة التفاسير المؤلف: محمد بن أحمد بن مصطفى بن أحمد المعروف بأبي زهرة (المتوفى: 1394هـ) دار النشـر: دار الفكر العربي (ج88/ص4392).