ضوابط في الهَجْر والتعزير لشيخ الإسلام ابن تيمية
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
ضوابط في الهَجْر والتعزير
لشيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه اللهِ تعالى-
مجموع الفتاوى (ج28/ ص203>210)
" الهجر الشرعي نوعان:
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -:
عَمَّنْ مَّنْ يَجِبُ أَوْ يَجُوزُ بُغْضُهُ أَوْ هَجْرُهُ أَوْ كِلاهُمَا لِلَّهِ تَعَالَى؟ وَمَاذَا يُشْتَرَطُ عَلَى الَّذِي يُبْغِضُهُ أَوْ يَهْجُرُهُ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ الشُّرُوطِ؟ وَهَلْ يَدْخُلُ تَرْكُ السَّلامِ فِي الْهِجْرَانِ أَمْ لا؟ وَإِذَا بَدَأَ الْمَهْجُورُ الْهَاجِرَ بِالسَّلامِ هَلْ يَجِبُ الرَّدُّ عَلَيْهِ أَمْ لا؟ وَهَلْ يَسْتَمِرُّ الْبُغْضُ وَالْهِجْرَانُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى يَتَحَقَّقَ زَوَالُ الصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ الَّتِي أَبْغَضَهُ وَهَجَرَهُ عَلَيْهَا؟ أَمْ يَكُونُ لِذَلِكَ مُدَّةٌ مَعْلُومَةٌ؟ فَإِنْ كَانَ لَهَا مُدَّةٌ مَعْلُومَةٌ فَمَا حَدُّهَا؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ.
فَأَجَابَ: الْهَجْرُ الشَّرْعِيُّ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا بِمَعْنَى التَّرْكِ لِلْمُنْكَرَاتِ. وَالثَّانِي بِمَعْنَى الْعُقُوبَةِ عَلَيْهَا.
فَالأَوَّلُ بِمَعْنَى التَّرْكِ لِلْمُنْكَرَاتِ: هُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْله تَعَالَى {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}. وقَوْله تَعَالَى {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إنَّكُمْ إذًا مِثْلُهُمْ} . فَهَذَا يُرَادُ بِهِ أَنَّهُ لا يَشْهَدُ الْمُنْكَرَاتِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ مِثْلَ قَوْمٍ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ يَجْلِسُ عِنْدَهُمْ. وَقَوْمٌ دُعُوا إلَى وَلِيمَةٍ فِيهَا خَمْرٌ وَزَمْرٌ لا يُجِيبُ دَعْوَتَهُمْ وَأَمْثَالَ ذَلِكَ. بِخِلافِ مَنْ حَضَرَ عِنْدَهُمْ لِلْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ أَوْ حَضَرَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ. وَلِهَذَا يُقَالُ: حَاضِرُ الْمُنْكَرِ كَفَاعِلِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلا يَجْلِسْ عَلَى مَائِدَةٍ يُشْرَبُ عَلَيْهَا الْخَمْرُ" . وَهَذَا الْهَجْرُ مِنْ جِنْسِ هَجْرِ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ عَنْ فِعْلِ الْمُنْكَرَاتِ. كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "الْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ". وَمِنْ هَذَا الْبَابِ الْهِجْرَةُ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ إلَى دَارِ الْإِسْلامِ وَالْإِيمَانِ. فَإِنَّهُ هَجْرٌ لِلْمَقَامِ بَيْنَ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ لا يُمَكِّنُونَهُ مِنْ فِعْلِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَمِنْ هَذَا قَوْله تَعَالَى {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}.
النَّوْعُ الثَّانِي الْهَجْرُ عَلَى وَجْهِ التَّأْدِيبِ: وَهُوَ هَجْرُ مَنْ يُظْهِرُ الْمُنْكَرَاتِ يُهْجَرُ حَتَّى يَتُوبَ مِنْهَا كَمَا -هَجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ: الثَّلاثَةَ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَوْبَتَهُمْ- حِينَ ظَهَرَ مِنْهُمْ تَرْكُ الْجِهَادِ الْمُتَعَيَّنِ عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ عُذْرٍ وَلَمْ يَهْجُرْ مَنْ أَظْهَرَ الْخَيْرَ وَإِنْ كَانَ مُنَافِقًا فَهُنَا الْهَجْرُ هُوَ بِمَنْزِلَةِ التَّعْزِيرِ.
حق التعزير على ترك الواجبات وفعل المنكرات:
وَالتَّعْزِيرُ يَكُونُ لِمَنْ ظَهَرَ مِنْهُ تَرْكُ الْوَاجِبَاتِ وَفِعْلُ الْمُحَرَّمَاتِ كَتَارِكِ الصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَالتَّظَاهُرِ بِالْمَظَالِمِ وَالْفَوَاحِشِ وَالدَّاعِي إلَى الْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ الَّتِي ظَهَرَ أَنَّهَا بِدَعٌ. وَهَذَا حَقِيقَةُ قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ: إنَّ الدُّعَاةَ إلَى الْبِدَعِ لا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ وَلا يُصَلَّى خَلْفَهُمْ وَلا يُؤْخَذُ عَنْهُمْ الْعِلْمُ وَلا يُنَاكَحُونَ. فَهَذِهِ عُقُوبَةٌ لَهُمْ حَتَّى يَنْتَهُوا؛ وَلِهَذَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الدَّاعِيَةِ وَغَيْرِ الدَّاعِيَةِ؛ لِأَنَّ الدَّاعِيَةَ أَظْهَرَ الْمُنْكَرَاتِ فَاسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ بِخِلافِ الْكَاتِمِ فَإِنَّهُ لَيْسَ شَرًّا مِنْ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْبَلُ عَلانِيَتَهُمْ وَيَكِلُ سَرَائِرَهُمْ إلَى اللَّهِ مَعَ عِلْمِهِ بِحَالِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ. وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "أَنَّ الْمَعْصِيَةَ إذَا خَفِيَتْ لَمْ تَضُرَّ إلا صَاحِبَهَا وَلَكِنْ إذَا أُعْلِنَتْ فَلَمْ تُنْكَرْ ضَرَّتْ الْعَامَّةَ" وَذَلِكَ لأنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إنَّ النَّاسَ إذَا رَأَوْا الْمُنْكَرَ فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ بِعِقَابِ مِنْهُ" . فَالْمُنْكَرَاتُ الظَّاهِرَةُ يَجِبُ إنْكَارُهَا؛ بِخِلافِ الْبَاطِنَةِ فَإِنَّ عُقُوبَتَهَا عَلَى صَاحِبِهَا خَاصَّةً. وَهَذَا الْهَجْرُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلافِ الْهَاجِرِينَ فِي قُوَّتِهِمْ وَضَعْفِهِمْ وَقِلَّتِهِمْ وَكَثْرَتِهِمْ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ زَجْرُ الْمَهْجُورِ وَتَأْدِيبُهُ وَرُجُوعُ الْعَامَّةِ عَنْ مِثْلِ حَالِهِ. فَإِنْ كَانَتْ الْمَصْلَحَةُ فِي ذَلِكَ رَاجِحَةً بِحَيْثُ يُفْضِي هَجْرُهُ إلَى ضَعْفِ الشَّرِّ وَخِفْيَتِهِ كَانَ مَشْرُوعًا. وَإِنْ كَانَ لا الْمَهْجُورُ وَلا غَيْرُهُ يَرْتَدِعُ بِذَلِكَ بَلْ يُزِيدُ الشَّرَّ وَالْهَاجِرُ ضَعِيفٌ بِحَيْثُ يَكُونُ مَفْسَدَةُ ذَلِكَ رَاجِحَةً عَلَى مَصْلَحَتِهِ لَمْ يَشْرَعْ الْهَجْرُ؛ بَلْ يَكُونُ التَّأْلِيفُ لِبَعْضِ النَّاسِ أَنْفَعَ مِنْ الْهَجْرِ. وَالْهَجْرُ لِبَعْضِ النَّاسِ أَنْفَعُ مِنْ التَّأْلِيفِ؛ وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَأَلَّفُ قَوْمًا وَيَهْجُرُ آخَرِينَ. كَمَا أَنَّ الثَّلاثَةَ الَّذِينَ خُلِّفُوا كَانُوا خَيْرًا مِنْ أَكْثَرِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ لَمَّا كَانَ أُولَئِكَ كَانُوا سَادَةً مُطَاعِينَ فِي عَشَائِرِهِمْ فَكَانَتْ الْمَصْلَحَةُ الدِّينِيَّةُ فِي تَأْلِيفِ قُلُوبِهِمْ وَهَؤُلاءِ كَانُوا مُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنُونَ سِوَاهُمْ كَثِيرٌ فَكَانَ فِي هَجْرِهِمْ عِزُّ الدِّينِ وَتَطْهِيرُهُمْ مِنْ ذُنُوبِهِمْ وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْمَشْرُوعَ فِي الْعَدُوِّ الْقِتَالُ تَارَةً وَالْمُهَادَنَةُ تَارَةً وَأَخْذُ الْجِزْيَةِ تَارَةً كُلُّ ذَلِكَ بِحَسَبِ الْأَحْوَالِ وَالْمَصَالِحِ. وَجَوَابُ الْأَئِمَّةِ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ فِي هَذَا الْبَابِ مَبْنِيٌّ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ وَلِهَذَا كَانَ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْأَمَاكِنِ الَّتِي كَثُرَتْ فِيهَا الْبِدَعُ كَمَا كَثُرَ الْقَدَرُ فِي الْبَصْرَةِ وَالتَّنْجِيمُ بِخُرَاسَانَ وَالتَّشَيُّعُ بِالْكُوفَةِ وَبَيَّنَ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ وَيُفَرِّقُ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ الْمُطَاعِينَ وَغَيْرِهِمْ وَإِذَا عَرَفَ مَقْصُودَ الشَّرِيعَةِ سَلَكَ فِي حُصُولِهِ أَوْصَلَ الطُّرُقِ إلَيْهِ. وَإِذَا عَرَفَ هَذَا فَالْهِجْرَةُ الشَّرْعِيَّةُ هِيَ مِنْ الْأَعْمَالِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا وَرَسُولُهُ. فَالطَّاعَةُ لا بُدَّ أَنْ تَكُونَ خَالِصَةً لِلَّهِ وَأَنْ تَكُونَ مُوَافِقَةً لِأَمْرِهِ فَتَكُونُ خَالِصَةً لِلَّهِ صَوَابًا. فَمَنْ هَجَرَ لِهَوَى نَفْسِهِ أَوْ هَجَرَ هَجْرًا غَيْرَ مَأْمُورٍ بِهِ: كَانَ خَارِجًا عَنْ هَذَا. وَمَا أَكْثَرَ مَا تَفْعَلُ النُّفُوسُ مَا تَهْوَاهُ ظَانَّةً أَنَّهَا تَفْعَلُهُ طَاعَةً لِلَّهِ. وَالْهَجْرُ لِأَجْلِ حَظِّ الْإِنْسَانِ لا يَجُوزُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلاثٍ كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لا يَحِلُّ لِمُسْلِمِ أَنَّ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاثٍ؛ يَلْتَقِيَانِ فَيَصُدُّ هَذَا وَيَصُدُّ هَذَا وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلامِ" فَلَمْ يُرَخِّصْ فِي هَذَا الْهَجْرِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلاثٍ كَمَا لَمْ يُرَخِّصْ فِي إحْدَادِ غَيْرِ الزَّوْجَةِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلاثٍ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ كُلَّ اثْنَيْنِ وَخَمِيسٍ فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لا يُشْرِكُ بِاَللَّهِ شَيْئًا؛ إلا رَجُلًا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا" فَهَذَا الْهَجْرُ لِحَقِّ الْإِنْسَانِ حَرَامٌ وَإِنَّمَا رَخَّصَ فِي بَعْضِهِ كَمَا رَخَّصَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَهْجُرَ امْرَأَتَهُ فِي الْمَضْجَعِ إذَا نَشَزَتْ. وَكَمَا رَخَّصَ فِي هَجْرِ الثَّلاثِ. فَيَنْبَغِي أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الْهَجْرِ لِحَقِّ اللَّهِ وَبَيْنَ الْهَجْرِ لِحَقِّ نَفْسِهِ.
فَالْأَوَّلُ مَأْمُورٌ بِهِ وَالثَّانِي مَنْهِيٌّ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إخْوَةٌ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: "لا تَقَاطَعُوا وَلا تَدَابَرُوا وَلا تَبَاغَضُوا وَلا تَحَاسَدُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إخْوَانًا الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ" وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي السُّنَنِ: "أَلا أُنَبِّئُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصَّلاةِ وَالصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: إصْلاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ لا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعْرَ وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ". وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ إذْ اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ".
وَهَذَا لِأَنَّ الْهَجْرَ مِنْ "بَابِ الْعُقُوبَاتِ الشَّرْعِيَّةِ " فَهُوَ مِنْ جِنْسِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَهَذَا يُفْعَلُ لِأَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ. وَالْمُؤْمِنُ عَلَيْهِ أَنْ يُعَادِيَ فِي اللَّهِ وَيُوَالِيَ فِي اللَّهِ فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ مُؤْمِنٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يُوَالِيَهُ وَإِنْ ظَلَمَهُ؛ فَإِنَّ الظُّلْمَ لا يَقْطَعُ الْمُوَالاةَ الْإِيمَانِيَّةَ قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ فَجَعَلَهُمْ إخْوَةً مَعَ وُجُودِ الْقِتَالِ وَالْبَغْيِ وَالْأَمْرِ بِالْإِصْلاحِ بَيْنَهُمْ. فَلْيَتَدَبَّرْ الْمُؤْمِنُ الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ فَمَا أَكْثَرَ مَا يَلْتَبِسُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ وَلْيَعْلَمْ أَنَّ الْمُؤْمِنَ تَجِبُ مُوَالاتُهُ وَإِنْ ظَلَمَك وَاعْتَدَى عَلَيْك وَالْكَافِرُ تَجِبُ مُعَادَاتُهُ وَإِنْ أَعْطَاك وَأَحْسَنَ إلَيْك؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ لِيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَيَكُونُ الْحَبُّ لِأَوْلِيَائِهِ وَالْبُغْضُ لِأَعْدَائِهِ وَالْإِكْرَامُ لِأَوْلِيَائِهِ وَالْإِهَانَةُ لِأَعْدَائِهِ وَالثَّوَابُ لِأَوْلِيَائِهِ وَالْعِقَابُ لِأَعْدَائِهِ.
وَإِذَا اجْتَمَعَ فِي الرَّجُلِ الْوَاحِدِ خَيْرٌ وَشَرٌّ وَفُجُورٌ وَطَاعَةٌ وَمَعْصِيَةٌ وَسُنَّةٌ وَبِدْعَةٌ: اسْتَحَقَّ مِنْ الْمُوَالاةِ وَالثَّوَابِ بِقَدْرِ مَا فِيهِ مِنْ الْخَيْرِ وَاسْتَحَقَّ مِنْ الْمُعَادَاتِ وَالْعِقَابِ بِحَسَبِ مَا فِيهِ مِنْ الشَّرِّ فَيَجْتَمِعُ فِي الشَّخْصِ الْوَاحِدِ مُوجِبَاتُ الْإِكْرَامِ وَالْإِهَانَةِ فَيَجْتَمِعُ لَهُ مِنْ هَذَا وَهَذَا كَاللِّصِّ الْفَقِيرِ تُقْطَعُ يَدُهُ لِسَرِقَتِهِ وَيُعْطَى مِنْ بَيْتِ الْمَالِ مَا يَكْفِيهِ لِحَاجَتِهِ.
هَذَا هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَخَالَفَهُمْ الْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ عَلَيْهِ فَلَمْ يَجْعَلُوا النَّاسَ لا مُسْتَحِقًّا لِلثَّوَابِ فَقَطْ وَلا مُسْتَحِقًّا لِلْعِقَابِ فَقَطْ. وَأَهْلُ السُّنَّةِ يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ بِالنَّارِ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ مَنْ يُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُخْرِجُهُمْ مِنْهَا بِشَفَاعَةِ مَنْ يَأْذَنُ لَهُ فِي الشَّفَاعَةِ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ كَمَا اسْتَفَاضَتْ بِذَلِكَ السُّنَّةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَصَلِّ اللَّهُمَّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ." اهـ.