أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ وخطرها على الدعاة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد،
فالحسد والكبر مرضان قلبيان خبيثان حذر منهما الشارع الحكيم، وبين خطرهما على المسلمين عموما وعلى الدعاة خصوصا، وأن هذين المرضين مرضان إبليسيان نسبة إلى "إبليس" فهو أول من فعل ذلك، وقد قص الله علينا في محكم التنزيل ما فعله إبليس عندما أمر الله الملائكة بالسجود لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى أن يسجد لآدم حسدا له وتكبرا عليه.
قال قتادة -رحمه الله-: "إن هذا السجود كان كرامة كرم الله بها آدم، ولكن إبليس حسد آدم على هذا التكريم، فحمله هذا الحسد على الاستكبار والفسوق على أمر ربه".
قال الإمام الرازي: "إن إبليس وقع فيما وقع فيه بسبب الحسد والكبر، ولهذا جاء التحذير من الكبر، والوعيد للمتكبرين، قال -صلى الله عليه وسلم-: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر» [رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني]، وفي كتاب الله العزيز آيات كثيرة تذم الكبر والمتكبرين، وتبين سوء عاقبتهم يوم الدين.
فحقيقة الكبر: بطر الحق وغمط الناس، كما جاء في الحديث النبوي الشريف: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر فقال رجل إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا قال إن الله تعالى جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس» [رواه مسلم]، فبطر الحق: رده ودفعه، وعدم الخضوع له وعدم الانقياد له استخفافا به وترفعا عليه، وعنادا له.
وغمط الناس أو غمصهم: احتقارهم والازدراء بهم.
وهذا المرض الشيطاني الذي يصيب صاحبه بداء الترفع على الناس أو رد ما معهم من الحق لأجل أنهم في نظره أقل منه في المستوى العلمي أو المادي أو الاجتماعي أو.. هذا الداء الذي يدفع صاحبه إلى رفض أوامر الله بجحد فرائضه أو استحلال ما حرمه الله والتمرد على شرعه، فإبليس احتج بذلك عندما أبى أن يسجد لآدم -عليه السلام-، احتج بشرف عنصره وأنه خلق من نار فكيف يسجد لآدم وقد خلق من طين فقال: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} [سورة الإسراء: الآية61]، وقال: {أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [سورة الأعراف: الآية 12].
فتأمل أخي الحبيب في هذه الكلمة الخبيثة الشيطانية: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} [سورة الأعراف: الآية 12], وتأمل في أحوال الناس من حولك تجد مظاهر الكبر والغرور طافحة، فهذا يتكبر بماله، وهذا بمنصبه وذا بقبيلته وعنصره، والرابع بعلمه وثقافته وفلسفته، الكل لسان حاله ينطق بهذه الكلمة الخبيثة {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} [سورة الأعراف: الآية 12], بل من الناس من ينطق بها صراحة بلا مواربة ولا حياء.
بل هناك ما هو أخطر من هذا كله أن تجد مدلول هذه الكلمة الخبيثة داخل الصف الإسلامي، وفي جماعات العمل الدعوي المعاصرة، وقد لا أكون مبالغا إذا قلت: إن معظم ما يحدث بين الجماعات الإسلامية من تناحر أو بغضاء أو تباعد سببه الحسد والكبر، وإن معظم ما يحدث بين أبناء المنهج الواحد من انشقاقات، وراءها اتهامات متبادلة وترك للعمل الدعوي سببه الحسد والكبر.
فهذه الكلمة: (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) كثيرا ما نسمعها أو نرى أثرها في سلوكيات كثير ممن ينتسب إلى الدعوة إلى الله وإلى طائفة الدعاة.
فالذي يرى الخيرية والأفضلية لنفسه ينظر إلى الآخرين من خلال النظرة المرضية، فتراه دائما معترضا على إخوانه وعلى إناطة العمل بغيره، خصوصا إذا كان في ذلك تقديم لذلك الغير عليه في العمل، فإنه من منطلق هذه الخيرية هو أولى بهذا العمل فهو الأحفظ والأقرأ والأعلم والأجدر والأنسب لكل عمل من الأعمال، وتتحول الدعوة إلى وظائف أقرب إلى الوظائف الحكومية يبحث كل واحد عن الترقي في الوظيفة الدعوية.
وليست القضية هي خدمة الدين والبذل للإسلام وتحمل التكليف الذي يناط به، وسد الثغرات التي توجد في العمل الإسلامي أيا كان موقعه في صفوف العاملين للإسلام ولا ننسى أن نـُذكِّـر في هذا المقام بحديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: «طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله أشعث رأسه مغبرة قدماه إن كان في الحراسة كان في الحراسة وإن كان في الساقة كان في الساقة إن استأذن لم يؤذن له وإن شفع لم يشفع» [رواه البخاري].
فالداعية إلى الله -جلا وعلا- ومن ينتسب إلى هذه الطائفة -نسأل الله أن يجعلنا منهم- يعمل لله في أي موقع كان فيه، لأنه يريد بذلك وجه الله -تعالى-، ولا يبحث لنفسه عن مجد شخصي أو شهرة بين الناس أو مكانة أو رياسة أو غير ذلك من المعاني الدنيوية التي تهوي بصاحبها إلى مشابهة إبليس -عليه لعنة الله- والسير على أثره في بطر الحق وغمط الناس وعدم قبول النصيحة ممن دونه في المنزلة أو المكانة أو..
لذا وجب علينا أن ننتبه لهذه الكلمة الخبيثة: (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ)، ولا نسمح لها بأن توجد بين أبناء المنهج الواحد، والدعوة الواحدة، وحتى لو كانت هناك خيرية ثابتة لبعض الأفراد أو ظاهرة، فهي لا تعني أبدا التمرد على إخوانه أو التعالي عليهم وعدم قبول الحق الذي معهم لأجل أنهم لم يعطوه حقه ولم يقدروه حق قدره -في ظنه- فإن الطائفة التي نشر بينها هذا المعنى لا يمكن أبدا أن تحقق النصر على الأعداء أو يجري الله على يديها التمكين لدينه.
والدليل على ذلك أن النصر الذي تحقق لسلفنا الصالح -رضوان الله عليهم أجمعين- لم يكن أبدا أن يتم إلا بعد أن ذابت هذه المعاني في حقائق الإيمان، وتلاشت من قلوبهم بسبب التربية النبوية لهم، فانظر إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد جهز جيشا قبيل وفاته لتسييره إلى أطراف الشام لإرهاب الروم وقد أمـَّرَ على ذلك الجيش أسامة بن زيد -رضي الله عنه- وهو شاب، وفي الجيش عدد كبير من كبار المسلمين، ومنهم عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، ولم يعترض أحد منهم على هذا التأمير لأسامة -رضي الله عنه- أو يقل: (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ)، فكيف يـُؤمَّر علي؟!
وقد أبقى الخليفة أبو بكر -رضي الله عنه- إمرة أسامة -رضي الله عنه- على هذا الجيش وأصر على تسييره إلى جهته، وكل ما فعله أبو بكر -رضي الله عنه- أن استأذن أسامة بن زيد -رضي الله عنه- باعتباره قائد الجيش أن يبقي له عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ليستعين به على أمور الدولة.
هكذا كان حالهم -رضي الله عنهم-، فقد تلاشت "الأنا" من نفوسهم، وأصبح كل واحد منهم حجرا في جدار الإسلام، ولبنة في بناء الدين.
نسأل الله -تبارك وتعالى- أن يجمعنا بهم في دار كرامته وفي مستقر رحمته، وأن يرزقنا السير على هداهم، وعلى طريقتهم في هذه الدنيا وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.