﴿ لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا﴾ صدق الله العظيم.
نِعم الأسوة نبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل مناحي الحياة ومجالاتها، وفي الحياة الأسرية المستقرة الدافئة. رسول الله صلى الله عليه وسلم نموذج يحتدى، وقدوة تقتفى، جعل الخيرية –نفسي فداه- في الإحسان إلى الأهل، فقال عليه السلام:"خيركم خيركم لإهله، وأنا خيركم لأهلي" [1]خيرية غمرت بيت النبوة الشريف، وفاضت بركتها حتى بلغنا من جميل صورها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخيط ثوبه، ويخسف نعله، ويكنس بيته.. يلاعب عائشة ويسابقها، ويجعل لزوجاته الكريمات فسحة من وقته ليؤانس ويلاطف، يعلم الأمة بوحي من ربها يتلى﴿وأخدن منكم ميثاقا غليظا﴾ [2]ميثاق ذكر في القرآن مرات ثلاث: ميثاق الله للنبيئين فوفَّوه، وميثاقه لبني إسرائيل فنكثوه فحل عليهم من الله غضب ولعنة، وميثاق زواجي يضفي الهيبة والحرمة على علاقة إن روعيت كوفئت بهبة ربانية عظيمة في رحاب الخلد عند المليك المقتدر. ما السبيل لنرقى بالزواج إلى هذه المعاني حتى تتحقق جليل معاني الميثاق الغليظ والأمانة الربانية؟
ما العمل لنسمو بنياتنا من عادة الارتباط المألوف إلى آفاق الارتباط بالله سيرا إلى الله؟
ما الطريق لتكون علاقتنا الزوجية مما يقربنا إلى الله زلفى، تراعى فيه تبعات الميثاق الغليظ، وتكتسي كل أعمالنا في ظلها صبغة العبادة المراد بها وجه الله سبحانه؟
ما السبيل لنربأ عن واقع الاستهانة بالقيم، ومنحدر تغليب العرف على الدين، إلى رحاب العض على مبادئنا بالنواجذ، وإضفاء قدسية الميثاق وجلال الميثاق على علاقتنا الزوجية؟
إنه الالتقاء في الله، التقاء الطيبات بالطيبين والطيبين بالطيبات في زواج إسلامي، توحدهم أواصر الاجتماع على الله، وينصهرون في أجواء الرحمة والمودة والإحسان لتختم هذه الرحلة بتلك السعادة الأبدية الموعودة. عن لقمان بن عامر عن أم الدرداء أنها قالت: "اللهم إن أبا الدرداء خطبني فتزوجني في الدنيا، اللهم فأنا أخطبه إليك وأسألك أن تزوجنيه في الجنة" [3]
إنه الإحسان. فما الإحسان؟
1. أول معاني الإحسان "أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك" كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل المعروف عند الإمام مسلم.
فكيف تتحقق هذه المعاني في العلاقة الزوجية؟
إن استشعار عظمة الله عز وجل، واستحضار دوام مراقبته، والحرص على طاعته، مما يورث في قلب الزوجين خشية لله عز وجل أن يجدهما حيث نهاهما مشاحة وغلظة وغمطا للحقوق وجورا، وأن يفتقدهما حيث أمرهما إكراما ومعروفا ورحمة وتوددا.
ينبعث كل منهما بكل ثقة وصدق ليرضي الآخر ويلبي احتياجاته، ويرفق به ويحسن إليه يقينا أن ذاك مما يقرب إلى الله عزوجل مقامات عُلى، ويؤدي كل منهما ما عليه من واجبات راضية بها نفسه التي يُقلعها "الإيمان والتطلع إلى مقامات الإحسان من أرض المشاحة والمخاصمة على الحقوق. تَوَّج الإحسان العدل وتخلله وسكن بين ضلوعه، فالمرأة الزوج تصبر عن بعض حقها إحسانا واحتسابا، والزوج الرجل يجتهد ليوفيها حقها ويزيد خوفا من الله ورجاء في مثوبته وقربه. إن كان العدل يسوي كفتين تنظر إحداهما إلى الأخرى على صعيد بشري، فالإحسان يرفع نظر الزوج وزوجه إلى الأعالي" [4]صحبة حميدة، ورفقة رشيدة تستمر ما استمر الوفاء بالميثاق وتبعاته. انجماع على الله تذوب فبه الفوارق، وتنقلب فيه العادة إلى عبادة بإخلاص الوجهة لله عز وجل، يلتقيان على عبادة الله ومحبة الله وطاعة الله والدعوة إلى الله.
صورة جميلة يعرضها الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري رضي الله عنه:""يرحم الله رجلا قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته فصلت، فإن أبت نضح في وجهها الماء، رحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها فصلى فإن أبى نضحت في وجهه الماء" [5]هو اجتماع على الذكر، وتنافس على الخير. هاهي مولاتنا فاطمة الزهراء رضي الله عنها تشتكي من سوء الحال وضيق ذات اليد لأبيها الرحيم صلى الله عليه وسلم لما مجلت اليد من كثرة جلب الماء واستعمال الرحى، وأثر حبل القربة على عنقها الشريف، لم يعطها خادما وإنما دلها على الاجتماع وزوجها على الذكر عندما يأويان إلى الفراش. ننصت إليها رضي الله عنها تروي فيما أخرجه البخاري عن ابن أبي ليلى:"فجاء النبي صلى الله عليه وسلم إلينا وقد أخذنا مضاجعنا فذهبت لأقوم فقال: على مكانكما. فقعد بيننا حتى وجدت برد قدميه على صدري وقال: ألا أعلمكما خيرا مما سألتماني، إذا أخذتما مضاجعكما تكبرا أربعا وثلاثين، وتسبحا ثلاثا وثلاثين، وتحمدا ثلاثا وثلاثين فهو خير لكما من خادم" إن الله عز وجل يختار من عباده من يشاء لما يشاء، يكون الزوجان المؤمنان منبعا لكل نبت طيب إن كان لهما في أرض التقوى قدم راسخ، وفي سماء العبودية بدر طالع.
وتتوطد هذه العلاقة بدعاء الرابطة يدعو فيه بعضهما لبعض كما للأنبياء عليهم السلام والصالحين والصالحات سلفا وخلفا، والوالدين والأقربين والذرية... مما يقوي الله به رباطهما، ويزيل رعونات نفسيهما، ويسلكهما كرما منه ورحمة في سلسلة نورانية موصولة بالأنبياء والأولياء والأتقياء.
تقترن التربية مع المروءة فيهما، والمودة مع التراحم فينعمان ويفيضان على من حولهما من نهر جوادٍ لاينضب، ومعين ترَّار لا ينقطع، محبة وإحسانا ودعوة ورسوخ قدم في زمن التغيير والبناء وبإعداد قوي لغد الإسلام الموعود.
صحبة محبة وتواد وتراحم، واجتماع على الذكر يهون به الله عز وجل مصاعب الدنيا والآخرة، وصدق معاشرة، شروط تربوية ثلاثة لعلاقة زوجية محسنة.
2. ثم إن الإحسان بر وعطاء في ثاني معانيه ومن تمام البر بر أقرب الناس وأحب الناس، أما أن ينتهي البر في حدود مجلس المؤانسة والملاطفة والمجاملة مع الإخوة الأصدقاء، والاقتناع أن البيت لا يصلح له سوى التكشير والتقضيب لحفظ هيبته وحرمته، فما ذلك من الإحسان في شيء، وما ذلك من المروءة في شيء.
ومن كمال الإحسان بر الأقارب، أقارب كل منهما لتصفو العلاقات وتسمو عن كل المكدرات والمفترات. حري بالزوجين المؤمنين ألا ينسيا أن الدعوة التي يرومانها، ونور هذا الدين الذي يرجوان تبليغه، الأقارب مادته الأولى وتربته الخصبة حتى لا تخسر الدعوة أقرب المقربين، وحتى يعلم الكل أن الإسلام رحمة ورفق وتعايش وسماحة.
فإذا كانت "نظرة رضا من والديك تعدل فك رقبة" كما عند البخاري، فماذا لو رضيا ورضيا ثم رضيا ورضي معهما الأقارب. الله عز وجل شكر لرجل من بني إسرائيل صنيعه حينما سقى كلبا عطشانا في فلاة، فكيف بمن يسقي رحيق هذا الدين أمة عطشى لرفقه وإحسانه.
3. ومن معاني الإحسان القلبية -ثالثا- الإتقان إتقان العمل نية وتوجها؛ إذ الأعمال وإن عظمت في ميزان الشرع كانت دنيا في حق صاحبها ما لم يرد بها وجه الله عز وجل. يتقن الزوجان المؤمنان بتصحيح النية عند الاختيار والالتقاء.
وبعد إتقان النية إتقان العمل أداء وإنجازا.
ومن أعظم ما يتعين على الزوجين إتقانه، صنعة الأبوة والأمومة، صناعة الأجيال. كمال الرجل والمرأة في أبوة حانية وأمومة حاضنة "إن كان الكمال القلبي الإحساني غاية الغايات، ومثال ما ينبغي أن تعمل المرأة ويعمل الرجل لتلقي عطائه من الله، فإن كمال المرأة الوظيفي وكمال الرجل، أبوين مسؤولين مربيين، هو غاية ما يراد منهما تحقيقه حفظا لفطرة الله، ونشرا لرسالة الله، وخدمة لأمة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ما يرفع المرأة إلى القداسة إلا أمومتها، وما يرفع الرجل إلا أبوته، يذكر حقهما بعد حق الله مباشرة في قوله تعالى:﴿وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا﴾ [6]أمومة تمتد وأبوة مثلها لتمارس روحا ومعنى في أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن إحسان العمل كذلك رعاية واجبات القوامة والحافظية، قوامة جعلها الله عز وجل للرجل لتكون أساسا مسؤولية تكليف ليسير سفينة الحياة الزوجية بسياسة أمينة حكيمة رفيقة، هي أخت الحافظية التي أنيطت بالمرأة لترعى وتحنو وتعطف وترحم.
ما أحسن الرجلُ الزوجُ إن طغى وتجبر وظن للحظة أنها قوامة تسلط وتعنت، لا تشاور وتفاهم وتحاب. ما أحسن حتما وهو يعُق وصية نبيه صلى الله عليه وسلم التي ظل يرددها وهو مقبل على لقاء ربه عز وجل، عن أم سلمة رضي الله عنها قالت:"آخر ما أوصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث، كان يتكلم بهن حتى تلجلج لسانه، وخفي كلامه، جعل يقول:" "الصلاة وما ملكت أيمانكم، لا تكلفوهم ما لا يطيقون، الله الله في النساء، فإنهن عوان عندكم" وما أحسنت المرأة الزوج إن خانت الأمانة ولم تحفظ، وأنى لها أن تحفظ من لا حاجة لها إلى ربها ولا مطلب.
إن الزواج ما انصهرت فيه الأرواح وذابت الفوارق، والتقت القوامة بأختها الحافظية في انسجام وتآلف. إن الزواج ما كان على سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، تغلب فيه العاطفة الرحيمة والمداراة الحكيمة والكلمة الرفيقة والدعابة اللطيفة واللمسة الرقيقة.
خاتمة يقرأ على الرجال والنساء آيات ربهم وسنة نبيهم عليه أزكى الصلاة والسلام ليدركوا أن واجب الإحسان إلى الأهل والترفق بهم، إنما هو ترجمة لمعاني الميثاق الغليظ الذي أشهد عليه الله عز وجل.
من يحيي في النفوس أنوار التنزيل لتعلم أن الأمر فصل وليس بالهزل، ولتعلم أن الله عز وجل إذا كان قد سمع من فوق سبع سماوات شكوى المشتكية من عسف الزوج الذي أكل مالها وأفنى شبابها ونثرت له بطنها، حتى إذا كبر سنها وانقطع ولدها ظاهرها، أدركت أن الأمر يستحق تصحيح الفهم وعقد العزم على الإحسان كل الإحسان. الله في علاه يسمع شكوى ضعيفة مكلومة منبوذة زمن التنزيل فيوحي إلى رسوله صلى الله عليه وسلم بقرآن للنَّصَفة وإحلال العدل والحرمة وتأكيد تبعات العهد الوثيق.
سبحان الله، قرآن يتلى إلى آخر الدهر لواقعة عكرت صفو المعاشرة، فكيف بمن له اللؤم طبعا، والخسة معدنا، والأذى سلوكا حياتيا لازبا.
ألا فليتق الله عباد الله وإماء الله ألا يحسنوا إلى بعضهم البعض فإن الرقيب حي والديان لا يموت.