من أراد أن يعلم حقيقة الرضى عن الله عز وجل في أفعاله ، وأن يدري من أين ينشأ الرضى ، فليفكر في أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم . فإنه لما تكاملت معرفته بالخالق سبحانه ، رأى أن الخالق مالك ، وللمالك التصرف في مملوكه، ورآه حكيماً لا يصنع شيئاً عبثاً، فسلم تسليم مملوك لحكيم ، فكانت العجائب تجري عليه ، ولا يوجد منه تغير ، ولا من الطبع تأفف.
ولا يقول بلسان الحال : لو كان كذا ، بل يثبت للأقدار ثبوت الجبل لعواصف الرياح . هذا سيد الرسل صلى الله عليه وسلم ، بعث إلى الخلق وحده ، والكفر قد ملأ الآفاق ، فجعل يفر من مكان إلى مكان، واستتر في دار الخيزران ، وهم يضربونه إذا خرج ، ويدمون عقبه ، وشق السلى على ظهره وهو ساكت ساكن .
ويخرج كل موسم فيقول: من يؤويني من ينصرني ؟. ثم خرج من مكة ، فلم يقدر على العود ؛ إلا في جوار كافر ، ولم يوجد من الطبع تأنف ، ولا من الباطن اعتراض ؛ إذا لو كان غيره لقال : يا رب أنت مالك الخلق ، واقدر على النصر ، فلم أذل ؟ كما قال عمر رضي الله عنه يوم صلح الحديبية: ألسنا على الحق ؟ فلم. نعطي الدنية في ديننا ؟ ولما قال هذا ، قال له رسول صلى الله عليه وسلم : إني عبد الله ولن يضيعني . فقوله : إني عبد الله ، إقرار بالملك وكأنه قال: أنا مملوك يفعل بي ما يشاء ، وقوله: لن يضيعني بيان حكمته ، وأنه لا يفعل شيئاً عبثاً.
ثم يبتلى بالجوع فيشد الحجر ، ولله خزائن السموات والأرض . وتقتل أصحابه ، ويشج وجهه ، وتكسر رباعيته ، ويمثل بعمه وهو ساكت . ثم يرزق ابناً ، ويسلب منه ، فيتعلل بالحسن والحسين ، فيخبر بما سيجري عليهما.
ويسكن بالطبع إلى عائشة رضي الله عنها ، فينغص عيشه بقذفها. ويبالغ في إظهار المعجزات ؛ فيقام في وجهه مسيلمة ، والعنسي ، وابن صياد. ويقيم ناموس الأمانة والصدق ، فيقال : كذاب ساحر ،ثم يعلقه المرض كما يوعك رجلان وهو ساكن ساكت.
فإن أخبر بحاله فليعلم الصبر. ثم يشدد عليه الموت ، فيسلب روحه الشريفة ، وهو مضطجع في كساء ملبد وإزار غليظ ، وليس عندهم زيت يوقد به المصباح ليلتئذ . هذا الشيء ما قدر على الصبر عليه كما ينبغي نبي قبله ، ولو ابتليت به الملائكة ما صبرت !!
هذا آدم عليه السلام يباح له الجنة ، سوى شجرة ، فلا يقع ذباب حرصه إلا على الفقر. ونبينا صلى الله عليه وسلم يقول في المباح :/ ما لي وللدنيا !. وهذا نوح عليه السلام يضج مما لاقى ، فيصيح من كمد وجده " لا تَذر على الأرض من الكافرين دياراً " . ونبينا صلى الله عليه وسلم يقول : اللهم اهد قدمي فإنهم لا يعلمون.
هذا الكليم موسى صلى الله عليه وسلم ، يستغيث عند عبادة قومه العجل ويتوكأ على القدر قائلاً: " إن هي إِلاَّ فتنتك " ويوجه إليه ملك الموت فيقلع عينه.
وعيسى صلى الله عليه وسلم يقول : إن صرفت الموت عن أحد فاصرفه عني . ونبينا صلى الله عليه وسلم يخير بين البقاء والموت، فيختار الرحيل إلى الرفيق الأعلى.
هذا سليمان صلى الله عليه وسلم يقول: هب لي ملكاً، ونبينا صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً.
هذا والله فعل رجل عرف الوجود والموجد، فماتت أغراضه، وسكنت اعتراضاته فصار هواه فيما يجري.