إن الحمد لله ، نحمده ، ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات
أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .
الأسرة ودورها في التربية الإعلامية
نتفق جميعاً على أن وسائل الإعلام تلعب دوراً كبيراً في مجتمعاتنا، ونتفق أيضاً على أن الأسرة لها دور كبير - قد يزيد، وقد ينقص- في التأثير على دور هذه الوسائل؛ لذا فإنه من الضرورة بمكان تزويد الأسرة بالإجراءات والخطوات التي تساعدها - بعون الله - في إكساب أفرادها - منذ طفولتهم المبكرة- مهارة التفاعل الواعي مع وسائل الإعلام، بحيث يصبحون مؤثرين بها أيضاً وليس فقط مجرد متأثرين.
وقد اخترنا في هذه الدراسة جهاز التلفاز كنموذجً لوسائل الإعلام؛ نظرا لاستحواذه على أغلب أوقات أطفالنا، مقارنة بالصحف والمجلات والإذاعة، ولأن أطفالنا ـ وإلى وقت قريب جدا ـ كانوا يختارون التلفاز لقضاء الأوقات؛ وأيضا فإن التلفاز يخاطب حاستي السمع والبصر، إضافة إلى الطريقة التي تُقدَّم بها برامج الأطفال، من حركة ومتعة وجاذبية.
وكل من يراقب الأطفال وهم يشاهدون برامج جذابة استخدمت فيها تقنية مُرضية من الصوت والصورة والإخراج؛ يجدهم وقد تجمعوا أمام الشاشة، ففغروا لها الأفواه والأعين، حتى إننا لنحسبهم رقوداً وهم أيقاظ! لذلك؛ إن استطاعت الأسرة إكساب أطفالها مهارة التفاعل الواعي مع شاشة التلفاز؛ فإنهم سيتمكنون -بإذن الله- من استخدام الأدوات ذاتها مع بقية وسائل الإعلام.
أهمية الأسرة الأسرة "هي الدرع الحصين"، كما جاء في لسان العرب، ومن معانيها أيضاً أنهم أهل الرجل، وعشيرته، والجماعة يربطها أمر. وتعرف الدكتورة سناء الخولي الأسرة "بأنها جماعة اجتماعية أساسية ودائمة، ونظام اجتماعي رئيس، وهي ليست أساس وجود المجتمع فحسب؛ بل هي مصدر الأخلاق، والدعامة الأولى لضبط السلوك، والإطار الذي يتلقى منه الإنسان أول دروس الحياة الاجتماعية.
ودلالة الأسرة - لغة واصطلاحاً- في مجتمعاتنا توحي أن الأسرة يضمها رباط وثيق، هذا الرباط يعلم أفرادها القيم والأخلاق، ويقيدهم عن ارتكاب المعاصي والمنكرات. والتوجيه القرآني الكريم والنبوي الشريف لم يتركا خياراً للأسرة أن تقوم بدورها، في التربية، وغرس الدين والأخلاق في نفوس الأطفال؛ بل ألزماها بذلك، فكما قال -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه الشيخان: [...وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ، وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا، وَمَسْؤُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا]. وبالمقابل؛ فإن هذين التوجيهين جعلا مسؤولية التربية جزءاً من عبوديتنا لله، نؤجر عليها، لقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الأنعام:162]، وقوله صلى الله عليه وسلم: [لأَنْ يُؤَدِّبَ الرَّجُلُ وَلَدَهُ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِصَاعٍ](رواه الترمذي).
وهذا المفهوم الجميل للتربية حوَّلها إلى سوار يزين المعصم، وليس عبئاً يثقل الكاهل، خاصة إن أُتقنَت التربية، فإن ذلك يورث محبة الله -جل وعلا- للعبد، لقوله -صلى الله عليه وسلم- [إِنَّ اللهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلاً أَنْ يُتْقِنَهُ](رواه الطبراني). وأي الأعمال أجل وأشرف من إتقان تربية الطفل، وتعهده بحسن الرعاية؛ حتى يصبح الاستثمار الأمثل للمجتمعات والأوطان والأمة، محققاً بذلك السعادة والنجاح لنفسه في الدارين؟ يقول الإمام الغزالي في إحيائه: "الصبي أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة نفسية، فإن عوَّدَ الخير وعلمه؛ نشأ عليه، وسعد في الدنيا والآخرة، وإن عود الشر وأهمل إهمال البهائم؛ شقي وهلك، وصيانته بأن يؤدبه ويهذبه، ويعلمه محاسن الأخلاق".
إن من دور الأسرة الحيوي ومسؤوليتها في هذا الزمن الذي وسم بتدفق المعلومات: تدريب أطفالها من سن مبكرة (من الرابعة) على التحدث عن أثر وسائل الإعلام وخطورتها، خاصة برامج التلفاز، ويستمر هذا في جميع مراحل نموهم، حتى إن أصبحوا شباباً؛ صاروا قادرين بكفاءة على نقدها، وتحليل مضامينها، ثم يتمكنوا بفعالية من استخدامها بنضج وذكاء؛ لإيصال أفكارهم وتطلعاتهم ونموذجهم الذي يمثلهم - فعلاً- إلى المجتمع؛ ليتحمل المجتمع مسؤولياته تجاه الشباب، ويساعده في تحقيق هذا النموذج.
وقد حذر د. إيهاب رمضان (استشاري المخ والأعصاب والصحة النفسية) من خطر التلفاز وآثاره السلبية قائلاً: "إن الحل لا يكمن في الابتعاد عن التلفاز نهائياً، ولكن لابد أن يكون وفق نظام محدد، مع ديمومة التشجيع على التواصل العاطفي والنفسي بين أفراد الأسرة، والتركيز على تعلم الطفل القيم الاجتماعية، وتعريفه بالخطأ والصواب".
هذا النظام المحدد ـ أعني في التربية الإعلامية ـ من شأنه أن ينقل الأسرة إلى حالة استثمار لجهاز التلفاز، بدلاً من أن تكون في حالة حرب، أو في وضع الهزيمة، وعدم الاقتصار على نقد محتوى برامج التلفاز، بل تستخدم هذا المحتوى في تحويله إلى أداة تثري ملكة النقد عند الطفل، والقدرة على الاختيار، ومهارة الحوار، واستخدام المنطق في الحكم على الأشياء.
لا حيادية في الإعلام إن على الأب والأم والراشد في الأسرة استشعار مسؤولياتهم وفهم التحدي، خاصة "أن الخطاب الإعلامي - بصفة خاصة - هو خطاب (مؤدلج)، وليس صحيحاً ما يردده بعض الإعلاميين والمثقفين العرب بقولهم: "إن الحيادية أساس الرسالة الإعلامية"، فكل إعلام منتم؛ إما لعقيدة، أو وطن، أو نظام. ومَثَلُ الإعلام غير المنتمي مثل بائع الصحف، الذي يوزع مضامين لا يفقه معناها. ودلائل هذه الحقيقة مبثوثة في الواقع المشاهد، وفي بطون الكتب الإعلامية المتخصصة". وبرامج الأطفال -التي تبث لهم، والتي أكثرها مستوردة- غير مستثناة من هذا الخطاب.
عند استخدام التلفاز؛ لا بد من الأخذ بالاعتبار أنه ليس شيئاً محايداً في المنزل، وأنه في اللحظة التي تضاء فيها الشاشة يتَّحد ذهن ومشاعر المشاهد - في عملية معقدة - لإدراك وفهم واستيعاب ما يُعرض، خاصة لدى الطفل.
والآباء الحريصون على تربية أطفالهم عليهم أن يستخدموا هذا الجهاز؛ لينقل الطفل من حالة (الضحية) أو (المنهزم) التي تشكو منها أكثر الأسر، إلى وضع المنتصر والمستثمر لهذه الأداة، والسبيل إلى هذا - بعون الله - هو التربية الإعلامية التي نتناولها فيما يلي.
مفهوم التربية الإعلامية كان الإعلام يعرف بأنه "حمل الخبر أو النبأ من جهة إلى أخرى. ونشره بواسطة الإذاعة والتلفاز والصحافة. ثم تطور حتى صار مفهومه تبني قضية من القضايا، وطرحها من خلال قناعات معينة بقصد إيصالها إلى المتلقي، سامعاً، أو مشاهداً، أو قارئاً".
وأما التربية الإعلامية فقد عرفها مؤتمر (التربية من أجل عصر الإعلام والتقنية الرقمية) -الذي عقد في (فينا) 1999م بأنها: "التربية التي تختص في التعامل مع كل وسائل الإعلام الاتصالي، وتشمل الكلمات، والرسوم المطبوعة، والصوت، والصورة الساكنة، والمتحركة؛ التي يتم تقديمها عن طريق أي نوع من أنواع التقنيات".
وإذا نظرنا إلى تطور التربية الإعلامية؛ نجد أن الفهم السائد - في الخمسينات والستينات الميلادية - عن عقل المشاهد أنه كاللوح الأملس، فكانت الأجندة التعليمية هي (التطعيم)، وجعل المشاهد يميز بين الإعلام الجيد والإعلام الفاسد، وأن يقدر جمال الإعلام الجيد.
هذا المفهوم تطور في السبعينات والثمانينات الميلادية إلى توجيه أسئلة (إيديولوجية) للإعلام، بدلاً من الأسئلة الجمالية، على سبيل المثال: كيف ولمصلحة مَن يعمل الإعلام؟ كيف ينتظمون؟ كيف ينتجون المعاني؟ كيف يعبرون عن الواقع؟ واقع مَن هو الذي يعبرون عنه؟
ثم - في التسعينات الميلادية - لم يعد الجمهور متلقياً أو ناقداً؛ فحسب بل ومنتجاً للمعاني الإعلامية، ذات الصلة بالنواحي الشخصية وبالمجتمع.
والهدف من التربية الإعلامية هو "تمكن أفراد المجتمع من الوصول إلى فهم لوسائل الإعلام الاتصالية التي تستخدم في مجتمعهم، والطريقة التي تعمل بها هذه الوسائل، ومن ثم تمكنهم من اكتساب المهارات في استخدام وسائل الإعلام للتفاهم مع الآخرين".
والمتأمل في تعريف التربية الإعلامية، وفي الهدف الذي تسعى لتحقيقه، وتطورها حتى وصلت إلى ما وصلت إليه؛ يدرك أنها لا تخاطب ولا تحمل وسائل الإعلام -على نحو مباشر-
مسؤولية الآثار السلبية التي يتعرض لها الأطفال إثر تعرضهم لهذه الوسائل؛ بل يرى أنها تتجه إلى متلقي ومستخدمي وسائل الإعلام، مطالبة الأسرة -
التي هي الحضن الأول للمتلقي، والدرع الحصين له- أن تؤهل الطفل؛ لفهم ماهية الإعلام ووسائله، منذ طفولته المبكرة،
وهو أوجب ما ينبغي على الأسرة فعله تجاه أفرادها والصغار منهم خاصة إذا أرادت أن تتخطى آثار الإعلام السلبية أو تقللها على أقل تقدير.