ولدمحمود سامي البارودي بالقاهرة في (27من رجب 1255 هـ - 6منأكتوبر 1839م) لأبوين من الجراكسة ، وجاءت شهرته بالبارودي نسبة إلى بلدة "إيتايالبارود" التابعة لمحافظة البحيرة . وقد ولد البارودى في حي باب الخلق بالقاهرة لأبوين من أصل شركسي من سلالة المقام السيفي نوروز الأتابكي (أخي برسباي) ، وكان أجداده ملتزمي إقطاعية ايتاى البارود بمحافظة البحيرة ، ويجمع الضرائب من أهلها ، يعتبر البارودي رائد الشعر العربي الحديث الذي جدّد في القصيدة العربية شكلاً ومضموناً ، ولقب باسم فارس السيف والقلم . نشأ البارودي في أسرة على شيء من الثراء والسلطان ، فأبوه كان ضابطا في الجيش المصرى برتبة لواء ، وعُين مديرا لمدينتي بربر ودنقلة فى السودان ، ومات هناك وكان محمود سامي حينئذ في السابعة من عمره . نشأالبارودي في أسرة على شيء من الثراء والسلطان ، فأبوه كانضابطًافي الجيش المصري برتبة لواء ، وعُين مديرًا لمدينتي "بربر" و"دنقلة" فيالسودان ،ومات هناك ، وكان ابنه محمود سامي حينئذ في السابعة من عمره . تلقىالبارودي دروسه الأولى في بيته ، فتعلم القراءة والكتابة ،وحفظالقرآن الكريم ، وتعلم مبادئ النحو والصرف ، ودرس شيئًا من الفقه والتاريخوالحساب ،ثم التحق وهو في الثانية عشرة من عمره بالمدرسة الحربية سنة (1268هـ = 1852م) ، وفي هذه الفترة بدأ يظهر شغفًا بالشعر العربي وشعرائه الفحول ، وبعد أربعسنواتمن الدراسة تخرّج برتبة "باشجاويش" ثم سافر إلى إستانبول مقر الخلافةالعثمانية ،والتحق بوزارة الخارجية ، وتمكن في أثناء إقامته من إتقان التركية والفارسيةومطالعة آدابهما ، وحفظ كثيرًا من أشعارهما ، ودعته سليقته الشعريةالمتوهجةإلى نظم الشعر بهما كما ينظم بالعربية ، ولما سافر الخديوي إسماعيل إلىالعاصمةالعثمانية بعد توليه العرش ليقدم آيات الشكر للخلافة ، ألحق الباروديبحاشيته ،فعاد إلى مصر بعد غيبة طويلة امتددت ثماني سنوات ، ولم يلبث أن حنّالباروديإلى حياة الجندية ، فترك معية الخديوي إلى الجيش برتبة بكباشي .
حياة الجندية :
وفيأثناء عمله بالجيش اشترك في الحملة العسكرية التي خرجتسنة (1282هـ - 1865م) لمساندة جيش الخلافة العثمانية في إخماد الفتنة التي نشبت فيجزيرة "كريت" ، وهناك أبلى البارودي بلاء حسنًا ، وجرى الشعر على لسانه يتغنى ببلدهالذيفارقه ، ويصف جانبًا من الحرب التي خاض غمارها . وبعدعودة البارودي من حرب كريت تم نقله إلى المعية الخديويةياورًاخاصًا للخديوي إسماعيل ، وقد ظل في هذا المنصب ثمانية أعوام ، ثم تم تعيينهكبيرًالياوران ولي العهد "توفيق بن إسماعيل" في (ربيع الآخر 1290هـ - يونيو183م) ، ومكث في منصبه سنتين ونصف السنة ، عاد بعدها إلى معية الخديوي إسماعيلكاتبًالسره (سكرتيرًا) ، ثم ترك منصبه في القصر وعاد إلى الجيش .
ولمااستنجدت الدولة العثمانية بمصر في حربها ضد روسياورومانياوبلغاريا والصرب ، كان البارودي ضمن قواد الحملة الضخمة التي بعثتها مصر ،ونزلتالحملة في "وارنة" أحد ثغور البحر الأسود ، وحاربت في "أوكرانيا" ببسالةوشجاعة،غير أن الهزيمة لحقت بالعثمانيين ، وألجأتهم إلى عقد معاهدة "سان استفانوا"في (ربيع الأول 1295هـ - مارس 1878م) ، وعادت الحملة إلى مصر ، وكان الإنعام علىالباروديبرتبة "اللواء" والوسام المجيدي من الدرجة الثالثة ، ونيشان الشرف ، لِمَاقدمهمن ضروب الشجاعة وألوان البطولة .
العمل السياسى :
بعدعودة البارودي من حرب البلقان تم تعيينه مديرًا لمحافظةالشرقيةفي (ربيع الآخر 1295هـ - إبريل 1878م) ، وسرعان ما نقل محافظًا للقاهرة ،وكانتمصر في هذه الفترة تمر بمرحلة حرجة من تاريخها ، بعد أن غرقت البلاد فيالديون ،وتدخلت إنجلترا وفرنسا في توجيه السياسة المصرية ، بعد أن صار لهما وزيرانفيالحكومة المصرية ، ونتيجة لذلك نشطت الحركة الوطنية وتحركت الصحافة ، وظهر تيارالوعيالذي يقوده "جمال الدين الأفغاني" لإنقاذ العالم الإسلامي من الاستعمار ، وفيهذهالأجواء المشتعلة تنطلق قيثارة البارودي بقصيدة ثائرة تصرخ في أمته ، توقظالنائموتنبه الغافل . وبينماكان محمد شريف باشا رئيس مجلس النظار يحاول أن يضعللبلاددستورًا قويمًا يصلح أحوالها ويرد كرامتها ، فارضًا على الوزارة مسؤوليتهاعلىكل ما تقوم به أمام مجلس شورى النواب ، إذا بالحكومة الإنجليزية والفرنسيةتكيدانللخديوي إسماعيل عند الدولة العثمانية لإقصائه الوزيرين الأجنبيين عنالوزارة ،وإسناد نظارتها إلى شريف باشا الوطني
تكبير الصورة معاينة الأبعاد الأصلية.
الغيور، وأثمرت سعايتهما ، فصدر قرارمنالدولة العثمانية بخلع إسماعيل وتولية ابنه توفيق . ولماتولّى الخديوي توفيق الحكم سنة (1296هـ - 1879م) أسندنظارةالوزارة إلى شريف باشا ، فأدخل معه في الوزارة البارودي ناظرًا للمعارفوالأوقاف ،ونرى البارودي يُحيّي توفيقًا بولايته على مصر ، ويستحثه إلى إصدارالدستوروتأييد الشورى . غيرأن "توفيق" نكص على عقبيه بعد أن تعلقت به الآمال فيالإصلاح ،فقبض على جمال الدين الأفغاني ونفاه من البلاد ، وشرد أنصاره ومريديه ،وأجبرشريف باشا على تقديم استقالته ، وقبض هو على زمام الوزارة ، وشكلها تحت رئاسته ،وأبقىالبارودي في منصبه وزيرًا للمعارف والأوقاف ، بعدها صار وزيرًا للأوقاف فيوزارةرياض . وقدنهض البارودي بوزارة الأوقاف ، ونقح قوانينها ، وكون لجنةمنالعلماء والمهندسين والمؤرخين للبحث عن الأوقاف المجهولة ، وجمع الكتب والمخطوطاتالموقوفةفي المساجد ، ووضعها في مكان واحد ، وكانت هذه المجموعة نواة دار الكتب التيأنشأها "علي مبارك" ، كما عُني بالآثار العربية وكون لها لجنة لجمعها ، فوضعت ما جمعتفيمسجد الحاكم حتى تُبنى لها دار خاصة ، ونجح في أن يولي صديقه "محمد عبده" تحريرالوقائعالمصرية ، فبدأت الصحافة في مصر عهدًا جديدًا . ثمتولى البارودي وزارة الحربية خلفًا لرفقي باشا إلى جانبوزارتهللأوقاف ، بعد مطالبة حركة الجيش الوطنية بقيادة عرابي بعزل رفقي ، وبدأالباروديفي إصلاح القوانين العسكرية مع زيادة رواتب الضباط والجند ، لكنه لم يستمرفيالمنصب طويلاً ، فخرج من الوزارة بعد تقديم استقالته (25 من رمضان 1298 - 22 منأغسطس1881م) ، نظرًا لسوء العلاقة بينه وبين رياض باشا رئيس الوزراء، الذي دس لهعندالخديوي .
وزارة الثورة :
عادالبارودي مرة أخرى إلى نظارة الحربية والبحرية في الوزارةالتيشكلها شريف باشا عقب مظاهرة عابدين التي قام بها الجيش في (14 من شوال 1298 هـ - 9من سبتمبر 1881م) ، لكن الوزارة لم تستمر طويلاً ، وشكل البارودي الوزارة الجديدةفي 5 من ربيع الآخر 1299هـ - 24 من فبراير 1882م ، وعين "أحمد عرابي" وزيرًاللحربية ،و"محمود فهمي" للأشغال ، ولذا أُطلق على وزارة البارودي وزارة الثورة ،لأنهاضمت ثلاثة من زعمائها . وافتتحتالوزارة أعمالها بإعداد الدستور ، ووضعته بحيث يكونموائمًالآمال الأمة ، ومحققًا أهدافها ، وحافظا كرامتها واستقلالها ، وحمل البارودينصالدستور إلى الخديوي ، فلم يسعه إلا أن يضع خاتمه عليه بالتصديق ، ثم عرضه علىمجلسالنواب .
الثورة العرابية : تمكشف مؤامرة قام بها بعض الضباط الجراكسة لاغتيال الباروديوعرابي ،وتم تشكيل محكمة عسكرية لمحاكمة المتهمين ، فقضت بتجريدهم من رتبهم ونفيهمإلىأقاصي السودان ، ولمّا رفع "البارودي" الحكم إلى الخديوي توفيق للتصديق عليه ،رفضبتحريض من قنصلي إنجلترا وفرنسا ، فغضب البارودي ، وعرض الأمر على مجلس النظار ،فقررأنه ليس من حق الخديوي أن يرفض قرار المحكمة العسكرية العليا وفقًا للدستور ،ثمعرضت الوزارة الأمر على مجلس النواب ، فاجتمع أعضاؤه في منزل البارودي ، وأعلنواتضامنهممع الوزارة ، وضرورة خلع الخديوي ومحاكمته إذا استمر على دسائسه . انتهزتإنجلترا وفرنسا هذا الخلاف ، وحشدتا أسطوليهما فيالإسكندرية ،منذرتين بحماية الأجانب ، وقدم قنصلاهما مذكرة في (7 من رجب 1299هـ - 25منمايو 1882م) بضرورة استقالة الوزارة ، ونفي عرابي ، وتحديد إقامة بعض زملائه ، وقدقابلتوزارة البارودي هذه المطالب بالرفض في الوقت الذي قبلها الخديوي توفيق ، ولميكنأمام البارودي سوى الاستقالة ، ثم تطورت الأحداث ، وانتهت بدخول الإنجليز مصر ،والقبضعلى زعماء الثورة العرابية وكبار القادة المشتركين بها ، وحُكِم على الباروديوستةمن زملائه بالإعدام ، ثم خُفف إلى النفي المؤبد إلى جزيرة سرنديب .
البارودى فى المنفى : أقامالبارودي في الجزيرة سبعة عشر عامًا وبعض عام ، وأقام معزملائهفي "كولومبو" سبعة أعوام ، ثم فارقهم إلى "كندي" بعد أن دبت الخلافات بينهم ،وألقىكل واحد منهم فشل الثورة على أخيه ، وفي المنفى شغل البارودي نفسه بتعلمالإنجليزيةحتى أتقنها ، وانصرف إلى تعليم أهل الجزيرة اللغة العربية ليعرفوا لغةدينهمالحنيف ، وإلى اعتلاء المنابر في مساجد المدينة ليُفقّه أهلها شعائرالإسلام . وطوالهذه الفترة قال قصائده الخالدة ، التي يسكب فيها آلامهوحنينهإلى الوطن ، ويرثي من مات من أهله وأحبابه وأصدقائه ، ويتذكر أيام شبابه ولهوهوماآل إليه حاله ، ومضت به أيامه في المنفى ثقيلة واجتمعت عليه علل الأمراض ، وفقدانالأهلوالأحباب ، فساءت صحته ، واشتدت وطأة المرض عليه ، ثم سُمح له بالعودة بعد أنتنادتالأصوات وتعالت بضرورة رجوعه إلى مصر، فعاد في (6 من جمادى الأولى 1317هـ - 12من سبتمبر 1899م) .
شعر البارودى : يعدالبارودي رائد الشعر العربي في العصر الحديث ، حيث وثب بهوثبةعالية لم يكن يحلم بها معاصروه ، ففكّه من قيوده البديعية وأغراضه الضيقة ،ووصلهبروائعه القديمة وصياغتها المحكمة ، وربطه بحياته وحياة أمته . وهوإن قلّد القدماء وحاكاهم في أغراضهم وطريقة عرضهمللموضوعاتوفي أسلوبهم وفي معانيهم ، فإن له مع ذلك تجديدًا ملموسًا من حيث التعبيرعنشعوره وإحساسه ، وله معان جديدة وصور مبتكرة . وقدنظم الشعر في كل أغراضه المعروفة من غزل ومديح وفخر وهجاءورثاء ،مرتسمًا نهج الشعر العربي القديم ، غير أن شخصيته كانت واضحة في كل ما نظم ،فهوالضابط الشجاع ، والثائر على الظلم ، والمغترب عن الوطن ، والزوج الحاني ، والأبالشفيق ،والصديق الوفي . وتركديوان شعر يزيد عدد أبياته على خمسة آلاف بيت ، طبع فيأربعةمجلدات ، وقصيدة طويلة عارض بها البوصيري ، أطلق عليها "كشف الغمة"، وله أيضًا "قيد الأوابد" وهو كتاب نثري سجل فيه خواطره ورسائله بأسلوب مسجوع ، و"مختاراتالبارودي" وهي مجموعة انتخبها الشاعر من شعر ثلاثين شاعرًا من فحول الشعر العباسي ،يبلغنحو 40 ألف بيت .
وفاته : بعدعودته إلى القاهرة ترك العمل السياسي ، وفتح بيته للأدباءوالشعراء ،يستمع إليهم ، ويسمعون منه ، وكان على رأسهم شوقي وحافظ ومطران ، وإسماعيلصبري ،وقد تأثروا به ونسجوا على منوال ه، فخطوا بالشعر خطوات واسعة ، وأُطلق عليهم "مدرسة النهضة" أو "مدرسة الأحياء" . ولمتطل الحياة بالبارودي بعد رجوعه، فلقي ربه في (4 من شوال1322 هـ - 12 من ديسمبر 1904م) .