التكييف الفقهي لبرامج التراسل الفوري
التكييف الفقهي لبرامج التراسل الفوري
تُعدُّ خدمة التراسل الفوري التي أحدثت دويَّا في شبكة المعلومات العالمية ، من أبدع ما أنتجته شركات الاتصالات التقنية التي تعمل بلا كلل أو ملل لأغراض المعرفة المعلوماتية الحديثة . وإذا كانت القاعدة الأصولية تقتضي أن الوصف لا ينضبط الا بفهم التعليل باضافة الحكم للوصف المناسب ، فإن أحكام الحوادث العصرية لا مناص من تقييدها بقيود شرعية ،واضافة الأحكام اليها على حسب الوصف المناسب لها .
وبرامج التراسل الفوري متعددة مثل : الواتس أب ، البلاك بيري ، الفايبر ، بارلينجو ، الميبو ، آي سي كيو .وقد يوجد في خصائص هذه البرامج ماهو مشترك في بعضها البعض ، والنوع الآخر ينفرد بخصائص دون غيرها . والتراسل الفوري قد يكون بالكتابة فقط كبرامج الدردشة ، وقد يكون بالصوت والصورة والكتابة ، كالماسنجر ونحوه من برامج التراسل.
1- الأصل الفقهي العام لبرامج التراسل : يمكن لهذه البرامج أن تُحمل على أصول فقهية متناسبة مع صفة التراسل ، كخيار المجلس وخيار الشرط وخيارالغبن وخيارالعيب ، وبعض أحكام البيع والشراء والاجارة وأحكام السمسرة ، وما يقاربها من الأحكام التي تنطبق على هيئة التراسل أو بعض أفراده . فالتراسل مجلس حُكمي يشبه المجلس الحِسي في كثيرٍ من جزئياته . واضافة أو قبول التراسل مع شخص أو جهة معينة تعني الموافقة والقبول والتراضي تقديراً ، ويلزم صاحبها من الأقوال والأفعال ما يلزمها من أحكام .
وتكون الألفاظ المكتوبة حجة لصاحبها أو عليه على حسب مقتضى الحال . وتُلحق أحكام التراسل أيضا بأحكام الكتابة والمواثيق الآدمية التي يلزم الوفاء بها وأداؤها بالطرق المعتبرة شرعا . كما قال الله تعالى : " وليكتب بينكم كاتبٌ بالعدل " ( البقرة : 282) .والقاعدة الفقهية قرَّرت أنَّ التابع تابع ، وأن الوسائل لها أحكام المقاصد .
ومعلوم أن الكتابة تكون فيصلاً في المنازعات وحجة لضبط الاستحكام . وقد استثنى جمهور الفقهاء من صحة التصرفات بالكتابة :عقد النكاح فلا ينعقد بالكتابة عند المالكية والشافعية والحنابلة, بل إن المالكية يقولون إن النكاح يفسخ مطلقا .أما الحنفية فإن النكاح ينعقد عندهم بالكتابة كسائر العقود . فتكون هذه الجزئية الخاصة بعقد النكاح عبر التراسل محل خلاف عند أهل العلم .
2- المسؤولية الفردية في برامج التراسل : التراسل أمانة بين المتراسلين ، وهو من التصرفات التي يحتاج فيها الى التوثيق والكفالة ،كما قال الله تعالى : " ولمن جاء به حِملُ بعيرٍ وأنا به زعيم " ( يوسف :72 ) . وإذا كانت القاعدة الفقهية قد قرَّرت أن الأمن في الاشهاد لا يقع الا بحسب الظن والتوهم لا على وجه الحقيقة عند المداينات، كما في قول الله تعالى : " فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤدِّ الذي أُؤتُمن أمانته " ( البقرة : 283) . ففي التراسل أولى وأحوج لتعلقها بالذِّمم والأمانات . فيجب على المتراسلين تحمل مسؤولياتهم في الالتزام بحفظ الحقوق ومراعاة الآداب . وتُعدُّ المواد المرسلة أو المستقبلة عبر التراسل الفوري من أدلة الاثبات والاقرار في الدعاوى والبيِّنات عند التقاضي . ويحرم في التراسل خلط البينات والأدلة لابطال حق أو احقاق باطل . وفي المرفوع : " لو يُعطى النّاس بدعواهم، لادّعى رجالٌ أموال قومٍ ودماءهم، لكن البيّنة على المدّعي،واليمين على من أنكر " . متفق عليه .
3- المخالفات الشرعية في برامج التراسل : لا يمكن حصر المخالفات الشرعية في برامج التراسل ، فهي أشهر من أن تُحصى أو تُحدّ . والمخالفات قد تكون في الصور المُجسَّمة أو المُسطَّحه أو المتحِّركة على حسب صفتها وحكمها المقرر ، ومثلها الفيسات والشعارات والرموز . وقد تكون في الألفاظ البدعية أو المقالات الفاسدة من أرباب المذاهب . وقد تكون في البدع الاضافية . ويلحق بذلك القذف والتشهير والشتم بالمزاح أو بالتصريح ، فكلٌّ مرهونٌ بسبَّابته . وكل ما يخالف السنة وإن كان له أصل فيجب توقِّيه والحذر من الوقوع فيه ، وقد قال الله تعالى " يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون " ( النور: 24 ) . وقد روي عن سعيد بن المسيب (ت:94هـ )رحمه الله تعالى أنه رأى رجلاً يُصلي بعد طلوع الفجر أكثر من ركعتين، يكثر فيها الركوع والسجود فنهاه، فقال: يا أبا محمد : أيعذبني الله على الصلاة؟ قال: لا، ولكن يعذبك على خلاف السنة .
4- الالزام في برامج التراسل : من الغلط الذي يقع في التراسل الفوري عدم التفريق بين الالزام والايجاب عند طلب نشر المواد الاعلامية أو العلمية . فالإلزام يكون في الحق والباطل ، يقال : ألزمته الحق والباطل . والإيجاب لا يستعمل إلا فيما هو حق ، فإن استعمل في غيره فهو مجاز . فلا يجوز شرعاً ايجاب ما لم يوجبه الله من العمل بأحاديث أو فضائل أو أشعار أو حِكم أو مواد سمعية أو مرئية لم تثبت في الميزان الشرعي . ولا يجوز طلب نشر مادة معينة أو التحذير من عدم ارسالها أو العمل بها الا بدليل راجح . وفي المرفوع :" كل شرطٍ ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مئة شرط " .أخرجه البخاري . وقد قررت القاعدة الفقهية :أن الكتاب كالخطاب ، وأن البيان بالكتاب بمنزلة البيان باللسان .فلا يجب فيهما إلا ما أوجبه الدليل .
ومن مسالك العلة التي يمكن الاستدلال بها على وجوب الاستبصار والتأمل في التراسل الفوري، قول الرسول صلى الله عليه وسلم :" إنما جُعل الاستذان من أجل البصر " .أخرجه البخاري . فهو نص صريح في وجوب الاستئذان عند ارسال أو طلب مادة اعلامية أثناء التراسل .
5- العقود في برامج التراسل : تتناسب أحكام التراسل الفوري مع كثير من أحكام العقود من حيث الوفاء والالتزام وابراء الذمم ، عملا بقول الله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود " ( المائدة : 1 ) . ويصح الطلاق والبيع والشراء إذا اثبتت بألفاظها عند التراسل وتكون لها أحكام الصحة والنفاذ . والعقود تصح كتابتها وإبرامها في برامج التراسل الفوري إذا كانت مطابقة للشروط المعتبرة : الانعقاد والصحة والنفاذ واللزوم . وأغلبها دائرة بين الايجاب والقبول والملكية والمعرفة والصيغة وتوافر الأهلية . وتسري أحكام الخيار في التراسل الفوري عند كتابة العقود والاتفاق عليها وابرامها ، كما في المرفوع : " البيِّعان بالخيار مالم يتفرقا " . متفق عليه .ويمكن تمييِّز السلع ومعرفتها عبر الوسائط ومعرفة مقاديرها وأوصافها ، ويكون الوصف بالرؤية والأنموذج والقياس . ويجوز فسخ العقد أو الاقالة حسب المتفق عليه عند انشاء العقد الابتدائي .
6- الضمان في برامج التراسل : المرسل والمرسل اليه يضمنان في مجلس التراسل ما بين أيديهم من تدوين وتقرير وهيئات تم نقلها والاتفاق عليها من الطرفين أو من أحدهما . والابداع والابتكار - ويقاس عليهما الحقوق الفكرية - مما يوجب الحقوق والضمان أيضاً عند التراسل ،لأنهما من خصائص الملكية الفردية التي يجب حفظها ومراعاتها . ومن أمثلة ذلك براءآت الاختراع والرسوم الهندسية والفنية والملفات العلمية والرسائل المهمة والمدوَّنات والمواد الاعلامية، فهي مما يوجبه الضمان ، لكن ينقطع الحق في تملكها بعد ستين عاما ،وهي أقصى مدة للانتفاع بحق الحكر وهو حق القرار على الأرض الموقوفة للغرس أو البناء بطريق الاجارة الطويلة . وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أوقع الضمان على البهائم التي في المراعي إذا اعتدت، كما في حديث البراء بن عازب: " أنّه كانت له ناقة ضارية ، فدخلت حائطاً فأفسدت فيه، فقضى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّ حفظ الحوائط بالنّهار على أهلها، وأنّ حفظ الماشية باللّيل على أهلها، وأنّ ما أصابت الماشية باللّيل فهو على أهلها ". أخرجه أبو داود باسناد صحيح ، فإن ضمان الحقوق الآدمية أحق وأحرى . والضمان لا يقع في التراسل الا حين التعدِّي أو الضرر أو الافضاء .
والخلاصة أن تحقيق المناط في أحكام التراسل الفوري ،دائرٌ بين الغُنم والغرم . والموفَّق من استتمَّ وبرَّ في سدادها على أكمل وجه . هذا ما تيسر تحريره ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .
المصادر :
1- المدخل الى فقه النوازل / الترتوري .
2- المنثور في القواعد / الزركشي .
3- مجلة مجمع الفقه الاسلامي / جده .
4- مجلة انترنت العالم العربي / دبي .
التكييف الفقهي لبرامج التراسل الفوري
موضوع: التكييف الفقهي لبرامج التراسل الفوري
