لقد كانت أرض اليمن-الواقعة في جنوب الجزيرة العربية- من الأراضي العامرة الغنية، وكانت في الماضي مهد الحضارة والتمدن، وكان يحكمها ملوك يسمّون (تبّعا)
ومهما يكن، فقد كان قوم تبع يشكلون مجتمعا قويا في عدته وعدده، ولهم حكومتهم الواسعة ومترامية الأطراف.
من هم قوم تبّع ؟
لقد وردت كلمة تبّع في القرآن الكريم مرتين فقط: مرة في الآية (27) من سورة الدخان، وأخرى في الآية (14) من سورة (ق) حيث تقول ﴿ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ ﴾.
إن (تبعا) كان لقبا عاما لملوك اليمن، ككسرى لسلاطين إيران، وخاقان لملوك الترك، وفرعون لملوك مصر، وقيصر لسلاطين الروم.
وكانت كلمة (تبع) تطلق على ملوك اليمن من جهة أنهم كانوا يدعون الناس إلي إتباعهم، أو لأن أحدهم كان يتبع الأخر في الحكم.
ولكن يبدو أن القرآن الكريم يتحدث عن أحد ملوك اليمن خاصة- كما أن فرعون المعاصر لموسى عليه السلام والذي يتحدث عنه القرآن كان معينا ومحددا-وورد في بعض الروايات أن اسمه (أسعد أبا كرب).
ويعتقد البعض أنه كان رجلا مؤمنا, واتبروا تعبير (قوم تبّع) الذي ورد في آيتين من القرآن دليلا على ذلك، حيث أنه لم يذم في هذه الآيتين، بل ذم قومه والرواية المروية عن النبي (ص) شاهدة على ذلك ففي هذه الرواية أنه قال: (لا تسبّوا تبّعا فأنه كان قد أسلم).\\\
وقد استطاع هذا الملك أن يفتح مدناً كثيرة في العالم كالهند، وقد وصل إلى مكّة وكسا الكعبة ببردة يمانيّة وذلك في القرن الخامس الميلادي. وقد سميّ هذا الملك بهذا الإسم لـ "الظل أو ظل الشمس"، وذلك لأنّ هذا الملك أينما كان يسير بغزواته في أي مكان تطلع عليه الشمس، وسميّ كذلك في رواية أخرى لكونه تتبعه الملوك وملوك اليمن خاصة، ثمّ أصبح اسم "تبّع" لقب يسمّى لكل من يتوّلى الملك عليهم كالفرعون، والقيصر، والكسرى، والنجاشيّ، وغيرهم.
وقد أهلك الله سبحانه وتعالى قوم "تبّع"، ولكن لم يذكر بالتفصيل طريقة هلاكهم في القرآن الكريم،
اصحاب الايكة هم قبيلة كانت تسكن في شمال غرب الجزيرة العربية و كانوا من العرب القدماء ،و تجد اثار منازلهم في مدينة البدع بالمملكة العربية السعودية ، اطلق عليهم اسم اصحاب الايكة لانهم كانوا يعبدون شجر الايك ، و اشتهروا بانهم رعاة للغنم كما كان منهم تجار معروف عنهم الغش في الاوزان . و لقد ذكر في القران الكريم ان الله سبحانه وتعالى بعث لهم نبيه ” شعيب ” و امرهم بترك الغش قي الاوزان و حثهم على المتاجرة الشريفة و لكنهم رفضوا دعوته و لم يؤمنوا بالله و لم يتركوا المعاصي و استمروا في اعمالهم ، و المعروف عنهم ايضا انهم كانوا يحفرون منازلهم في الجبال .
صدق الله العظيم في هذه الايات يوضح ان الله سبحانة وتعالى ارسل الى قوم مدين ” اصحاب الايكة ” نبي منهم و هو نبي الله شعيب علية السلام ليدعوهم الى عبادة الله وحده لا شريك له و يامرهم بترك الغش في الاوزان و ذكرهم بعذاب الاخرة ولكنهم لم ينتهوا ولم يسمعوا
وحذّرهم من عذاب أليم، وهلاك من الله، كما لاقى قوم ثمود، ولوط، وصالح من قبلهم، وقد لقب شعيّب بخطيب الأنبياء، فقد وهبه الله أسلوباً بليغاً في الحوار والمخاطبة، كما عرف بلين قوله، ومع ذلك لم يستجيبوا بل وصفوه بالضعيف، حيث كان عليه السلام ضريراً، فأخذهم الله بالصيحة، وما جاء في كتب قصص الأنبياء الذي يشرح آيات القرآن الكريم التي تقص ما حدث مع الأنبياء أنّ الله ابتلى قوم شعيب بالحر الشديد فلم يكن يروي عطشهم ماءً ولا ظلاً ولا طعاماً، فخرجوا من ديارهم ورأوا سحابة ظنّوها ستقيهم من الحر، ولما اجتمعو تحتها، بدأت تثير عليهم الشرار، ثم جاءت الصيحة، نتيجة إشراكهم بالله وعبادتهم الأيكة، وتطفيفهم المكيال، ونجّى الله شعيباً ومن آمن معه
أصحاب الحِجر هم قوم ثمود الذين أرسل إليهم صالح – عليه السلام -، وصالح هو واحد من الرسل الكرام الذين أرسلهم الله تعالى إلى الأقوام المختلفة لدعوتهم إلى دين الحق والنور والهدى والابتعاد عن طريق الغيّ والضلال والعصيان. سمّوا بهذا الاسم لأنهم سكنوا بالحجر، والحجر هي إحدى المناطق التي تقع ما بين كل من بلاد الشام والحجاز في جنوب شرق مدين بالقرب من خليج العقبة، وتسمّى بمدائن صالح، وهي موجودة إلى يومنا هذا وتعد معلماً سياحياً هاماً يقصدها جميع الناس ليروا هذه الآثار الخالدة. وقد سميت ثمود بهذا الاسم نسبة إلى جدها وهو ( ثمود بن عامر بن ارم بن سام )، وهناك من قال أن ثمود هو ابن عاد بن عوص بن ارم. وقال عدد من المؤرّخين أنّ مساكن ثمود في الحِجر هي واحدة من المستعمرات التي كانت لقوم عاد الذين أرسل فيهم نبي الله تعالى هوداً – عليه السلام -. قبيلة ثمود كانت من عباد الأوثان التي لا تضر ولا تنفع، فقد أشركوها في العبادة مع الله – عز وجل -، ومن هنا أرسل الله تعالى صالحاً – عليه السلام – ليبلغ رسالة التوحيد إليهم، ليثنيهم ويبعدهم عن عبادة الأصنام، وينقذهم مما أدخلوا أنفسهم فيه من مصائب وكوارث ستكون عاقبتها وخيمة عليهم. طلب قوم ثمود من صالح أن يأتيهم بآية من عند الله تعالى تكون دليلاً على صدق نبوته ورسالته وما جاء به، فأخرج الله تعالى لهم ناقة من صخرة، وأمرهم الله تعالى أن لا يمسوا هذه الناقة بأي سوء وأن يدعوها تأكل وترعى كما تشاء في الأرض، وربط وقرن سلامة القوم ونجاتهم بسلامة الناقة ونجاتها، وقد نسب القرآن العظيم هذه الناقة إلى الله رب العالمين، وهذه النسبة تزيد من شأنها وتعلي من أمرها، فقد قال الله تعالى:
" هذه ناقة الله لكم آية "،
إلّا أنّ قوم صالح – عليه السلام – لم يتركوا الناقة وشأنها، فعقروها. وهنا جاء عذاب الله تعالى شديد إليهم. أهلك الله تعالى ثموداً بالصيحة وهي الصوت المرتفع، وهناك قول بأنهم دمروا بالصاعقة الكهربائية وهو قول له استدلالاته ومبرراته. أما صالح ومن آمن معه من المؤمنين فقد غادروا القرية واختلف في المكان الذي ذهبوا إليه فهناك من قال أنهم ذهبوا إلى الرملة في أرض فلسطين وهناك من قال أنهم ذهبوا إلى مكة المكرمة وهناك من قال أنهم عادوا إلى قريتهم وأقاموا فيها وهناك من قالوا أنهم أقاموا في حضر موت.
في زمان ما. كانت توجد قرية مشركة. ضل ملكها وأهلها عن الطريق المستقيم، وعبدوا مع الله مالا يضرهم ولا ينفعهم. عبدوهم من غير أي دليل على ألوهيتهم. ومع ذلك كانوا يدافعون عن هذه الآلهة المزعومة، ولا يرضون أن يمسها أحد بسوء. ويؤذون كل من يكفر بها، ولا يعبدها. في هذه المجتمع الفاسد، ظهرت مجموعة من الشباب العقلاء. ثلة قليلة حكّمت عقلها، ورفضت السجود لغير خالقها، الله الذي بيده كل شيء. فتية، آمنوا بالله، فثبتهم وزاد في هداهم. وألهمهم طريق الرشاد. لم يكن هؤلاء الفتية أنبياء ولا رسلا، ولم يتوجب عليهم تحمل ما يتحمله الرسل في دعوة أقواهم. إنما كانوا أصحاب إيمان راسخ، فأنكروا على قومهم شركهم بالله، وطلبوا منهم إقامة الحجة على وجود آلهة غير الله. ثم قرروا النجاة بدينهم وبأنفسهم بالهجرة من القرية لمكان آمن يعبدون الله فيه. فالقرية فاسدة، وأهلها ضالون. عزم الفتية على الخروج من القرية، والتوجه لكهف مهجور ليكون ملاذا لهم. خرجوا ومعهم كلبهم من المدينة الواسة، للكهف الضيق. تركوا وراءهم منازلهم المريحة، ليسكنوا كهفا موحشا. زهدوا في الأسرّية الوثيرة، والحجر الفسيحة، واختاروا كهفا ضيقا مظلما. إن هذا ليس بغريب على من ملأ الإيمان قلبه. فالمؤمن يرى الصحراء روضة إن أحس أن الله معه. ويرى الكهف قصرا، إن اختار الله له الكهف. وهؤلاء ما خرجوا من قريتهم لطلب دنيا أو مال، وإنما خرجوا طمعا في رضى الله. وأي مكان يمكنهم فيه عبادة الله ونيل رضاه سيكون خيرا من قريتهم التي خرجوا منها. استلقى الفتية في الكهف، وجلس كلبهم على باب الكهف يحرسه. وهنا حدثت معجزة إلاهية. لقد نام الفتية ثلاثمئة وتسع سنوات. وخلال هذه المدة، كانت الشمس تشرق عن يمين كهفهم وتغرب عن شماله، فلا تصيبهم أشعتها في أول ولا آخر النهار. وكانوا يتقلبون أثناء نومهم، حتى لا تهترئ أجاسدهم. فكان الناظر إليهم يحس بالرعب. يحس بالرعب لأنهم نائمون ولكنهم كالمستيقظين من كثرة تقلّبهم. بعد هذه المئين الثلاث، بعثهم الله مرة أخرى. استيقضوا من سباتهم الطويل، لكنهم لم يدركوا كم مضى عليهم من الوقت في نومهم. وكانت آثار النوم الطويل بادية عليهم. فتساءلوا: كم لبثنا؟! فأجاب بعضهم: لبثنا يوما أو بعض يوم. لكنهم تجاوزوا بسرعة مرحلة الدهشة، فمدة النوم غير مهمة. المهم أنهم استيقظوا وعليهم أن يتدبروا أمورهم. فأخرجوا النقود التي كانت معهم، ثم طلبوا من أحدهم أن يذهب خلسة للمدينة، وأن يشتري طعاما طيبا بهذه النقود، ثم يعود إليهم برفق حتى لا يشعر به أحد. فربما يعاقبهم جنود الملك أو الظلمة من أهل القرية إن علموا بأمرهم. قد يخيرونهم بين العودة للشرك، أو الرجم حتى الموت. خرج الرجل المؤمن متوجها للقرية، إلا أنها لم تكن كعهده بها. لقد تغيرت الأماكن والوجوه. تغيّرت البضائع والنقود. استغرب كيف يحدث كل هذا في يوم وليلة. وبالطبع، لم يكن عسيرا على أهل القرية أن يميزوا دهشة هذا الرجل. ولم يكن صبعا عليهم معرفة أنه غريب، من ثيابه التي يلبسها ونقوده التي يحملها. لقد آمن المدينة التي خرج منها الفتية، وهلك الملك الظالم، وجاء مكانه رجل صالح. لقد فرح الناس بهؤلاء الفتية المؤمنين. لقد كانوا أول من يؤمن من هذه القرية. لقد هاجروا من قريتهم لكيلا يفتنوا في دينهم. وها هم قد عادوا. فمن حق أهل القرية الفرح. وذهبوا لرؤيتهم. وبعد أن ثبتت المعجزة، معجزة إحياء الأموات. وبعدما استيقنت قلوب أهل القرية قدرة الله سبحانه وتعالى على بعث من يموت، برؤية مثال واقي ملموس أمامهم. أخذ الله أرواح الفتية. فلكل نفس أجل، ولا بد لها أن تموت. فاختلف أهل القرية. فمن من دعى لإقامة بنيان على كهفهم، ومنهم من طالب ببناء مسجد، وغلبت الفئة الثانية. لا نزال نجهل كثيرا من الأمور المتعلقة بهم. فهل كانوا قبل زمن عيسى عليه السلام، أم كانوا بعده. هل آمنوا بربهم من من تلقاء نفسهم، أم أن أحد الحواريين دعاهم للإيمان. هل كانوا في بلدة من بلاد الروم، أم في فلسطين. هل كانوا ثلاثة رابعهم كلبهم، أم خمسة سادسهم كلبهم، أم سبعة وثامنهم كلبهم. كل هذه أمور مجهولة. إلا أن الله عز وجل ينهانا عن الجدال في هذه الأمور، ويأمرنا بإرجاع علمهم إلى الله. فالعبرة ليست في العدد، وإنما فيما آل إليه الأمر. فلا يهم إن كانوا أربعة أو ثمانية، إنما المهم أن الله أقامهم بعد أكثر من ثلاثمئة سنة ليرى من عاصرهم قدرة على بعث من في القبور، ولتتناقل الأجيال خبر هذه المعجزة جيلا بعد جيل.
وقال تعالى في سورة "البقرة": وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ" .
وقال تعالى في سورة "البقرة": وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ" .
أبطال هذه الحادثة، جماعة من اليهود، كانوا يسكنون في قرية ساحلية. اختلف المفسّرون في اسمها، ودار حولها جدل كثير. أما القرآن الكريم، فلا يذكر الاسم ويكتفي بعرض القصة لأخذ العبرة منها. وكان اليهود لا يعملون يوم السبت، وإنما يتفرغون فيه لعبادة الله. فقد فرض الله عليهم عدم الانشغال بأمور الدنيا يوم السبت بعد أن طلبوا منه سبحانه أن يخصص لهم يوما للراحة والعبادة، لا عمل فيه سوى التقرب لله بأنواع العبادة المختلفة. وجرت سنّة الله في خلقه. وحان موعد الاختبار والابتلاء. اختبار لمدى صبرهم واتباعهم لشرع الله. وابتلاء يخرجون بعده أقوى عزما، وأشد إرادة. تتربى نفوسهم فيه على ترك الجشع والطمع، والصمود أمام المغريات. لقد ابتلاهم الله عز وجل، بأن جعل الحيتان تأتي يوم السبت للساحل، وتتراءى لأهل القرية، بحيث يسهل صيدها. ثم تبتعد بقية أيام الأسبوع. فانهارت عزائم فرقة من القوم، واحتالوا الحيل –على شيمة اليهود- وبدوا بالصيد يوم السبت. لم يصطادوا السمك مباشرة، وإنما أقاموا الحواجز والحفر، فإذا قدمت الحيتان حاوطوها يوم السبت، ثم اصطادوها يوم الأحد. كان هذا الاحتيال بمثابة صيد، وهو محرّم عليهم. فانقسم أهل القرية لثلاث فرق. فرقة عاصية، تصطاد بالحيلة. وفرقة لا تعصي الله، وتقف موقفا إيجابيا مما يحدث، فتأمر بالمعروف وتنهى عن المكر، وتحذّر المخالفين من غضب الله. وفرقة ثالثة، سلبية، لا تعصي الله لكنها لا تنهى عن المكر. وكانت الفرقة الثالثة، تتجادل مع الفرقة الناهية عن المنكر وتقول لهم: ما فائدة نصحكم لهؤلاء العصاة؟ إنهم لن يتوفقوا عن احتيالهم، وسيصبهم من الله عذاب أليم بسبب أفعالهم. فلا جدة من تحذيرهم بعدما كتب الله عليهم الهلاك لانتهاكهم حرماته. وبصرامة المؤمن الذي يعرف واجباته، كان الناهون عن المكر يجيبون: إننا نقوم بواجبنا في الأمر بالمعروف وإنكار المنكر، لنرضي الله سبحانه، ولا تكون علينا حجة يوم القيامة. وربما تفيد هذه الكلمات، فيعودون إلى رشدهم، ويتركون عصيانهم. بعدما استكبر العصاة المحتالوا، ولم تجد كلمات المؤمنين نفعا معهم، جاء أمر الله، وحل بالعصاة العذاب. لقد عذّب الله العصاة وأنجى الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر. أما الفرقة الثالثة، التي لم تعص الله لكنها لم تنه عن المكر، فقد سكت النصّ القرآني عنها. لقد كان العذاب شديدا. لقد مسخهم الله، وحوّلهم لقردة عقابا لهم لإمعانهم في المعصية. وتحكي بعض الروايات أن الناهون أصبحوا ذات يوم في مجالسهم ولم يخرج من المعتدين أحد. فتعجبوا وذهبوا لينظرون ما الأمر. فوجودا المعتدين وقد أصبحوا قردة. فعرفت القردة أنسابها من الإنس, ولم تعرف الإنس أنسابهم من القردة; فجعلت القردة تأتي نسيبها من الإنس فتشم ثيابه وتبكي; فيقول: ألم ننهكم! فتقول برأسها نعم. الروايات في هذا الشأن كثيرة، ولم تصح الكثير من الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأنها. لذا نتوقف هنا دون الخوض في مصير القردة، وكيف عاشوا حياتهم بعد خسفهم.
لقد كان غلاما نبيها، ولم يكن قد آمن بعد. وكان يعيش في قرية ملكها كافر يدّعي الألوهية. وكان للملك ساحر يستعين به. وعندما تقدّم العمر بالساحر، طلب من الملك أن يبعث له غلاما يعلّمه السحر ليحلّ محله بعد موته. فاختير هذا الغلام وأُرسل للساحر. فكان الغلام يذهب للساحر ليتعلم منه، وفي طريقه كان يمرّ على راهب. فجلس معه مرة وأعجبه كلامه. فصار يجلس مع الراهب في كل مرة يتوجه فيها إلى الساحر. وكان الساحر يضربه إن لم يحضر. فشكى ذلك للراهب. فقال له الراهب: إذا خشيت الساحر فقل حبسني أهلي، وإذا خشيت أهلك فقل حبسني الساحر. وكان في طريقه في أحد الأيام، فإذا بحيوان عظيم يسدّ طريق الناس. فقال الغلام في نفسه، اليوم أعلم أيهم أفضل، الساحر أم الراهب. ثم أخذ حجرا وقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس. ثم رمى الحيوان فقلته، ومضى الناس في طريقهم. فتوجه الغلام للراهب وأخبره بما حدث. فقال له الراهب: يا بنى، أنت اليوم أفضل مني، وإنك ستبتلى، فإذا ابتليت فلا تدلّ عليّ. وكان الغلام بتوفيق من الله يبرئ الأكمه والأبرص ويعالج الناس من جميع الأمراض. فسمع به أحد جلساء الملك، وكان قد فَقَدَ بصره. فجمع هدايا كثرة وتوجه بها للغلام وقال له: أعطيك جميع هذه الهداية إن شفيتني. فأجاب الغلام: أنا لا أشفي أحدا، إنما يشفي الله تعالى، فإن آمنت بالله دعوت الله فشفاك. فآمن جليس الملك، فشفاه الله تعالى. فذهب جليس الملجس، وقعد بجوار الملك كما كان يقعد قبل أن يفقد بصره. فقال له الملك: من ردّ عليك بصرك؟ فأجاب الجليس بثقة المؤمن: ربّي. فغضب الملك وقال: ولك ربّ غيري؟ فأجاب المؤمن دون تردد: ربّي وربّك الله. فثار الملك، وأمر بتعذيبه. فلم يزالوا يعذّبونه حتى دلّ على الغلام. أمر الملك بإحضار الغلام، ثم قال له مخاطبا: يا بني، لقد بلغت من السحر مبلغا عظيما، حتى أصبحت تبرئ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل. فقال الغلام: إني لا أشفي أحدا، إنما يشفي الله تعالى. فأمر الملك بتعذيبه. فعذّبوه حتى دلّ على الراهب. فأُحضر الراهب وقيل له: ارجع عن دينك. فأبى الراهب ذلك. وجيئ بمشار، ووضع على مفرق رأسه، ثم نُشِرَ فوقع نصفين. ثم أحضر جليس الملك، وقيل له: ارجع عن دينك. فأبى. فَفُعِلَ به كما فُعِلَ بالراهب. ثم جيئ بالغلام وقيل له: ارجع عن دينك. فأبى الغلام. فأمر الملك بأخذ الغلام لقمة جبل، وتخييره هناك، فإما أن يترك دينه أو أن يطرحوه من قمة الجبل. فأخذ الجنود الغلام، وصعدوا به الجبل، فدعى الفتى ربه: اللهم اكفنيهم بما شئت. فاهتزّ الجبل وسقط الجنود. ورجع الغلام يمشي إلى الملك. فقال الملك: أين من كان معك؟ فأجاب: كفانيهم الله تعالى. فأمر الملك جنوده بحمل الغلام في سفينة، والذهاب به لوسط البحر، ثم تخييره هناك بالرجوع عن دينه أو إلقاءه. فذهبوا به، فدعى الغلام الله: اللهم اكفنيهم بما شئت. فانقلبت بهم السفينة وغرق من كان عليها إلا الغلام. ثم رجع إلى الملك. فسأله الملك باستغراب: أين من كان معك؟ فأجاب الغلام المتوكل على الله: كفانيهم الله تعالى. ثم قال للملك: إنك لن تستطيع قتلي حتى تفعل ما آمرك به. فقال الملك: ما هو؟ فقال الفتى المؤمن: أن تجمع الناس في مكان واحد، وتصلبي على جذع، ثم تأخذ سهما من كنانتي، وتضع السهم في القوس، وتقول "بسم الله ربّ الغلام" ثم ارمني، فإن فعلت ذلك قتلتني. استبشر الملك بهذا الأمر. فأمر على الفور بجمع الناس، وصلب الفتى أمامهم. ثم أخذ سهما من كنانته، ووضع السهم في القوس، وقال: باسم الله ربّ الغلام، ثم رماه فأصابه فقتله. فصرخ الناس: آمنا بربّ الغلام. فهرع أصحاب الملك إليه وقالوا: أرأيت ما كنت تخشاه! لقد وقع، لقد آمن الناس. فأمر الملك بحفر شقّ في الأرض، وإشعال النار فيها. ثم أمر جنوده، بتخيير الناس، فإما الرجوع عن الإيمان، أو إلقائهم في النار. ففعل الجنود ذلك، حتى جاء دور امرأة ومعها صبي لها، فخافت أن تُرمى في النار. فألهم الله الصبي أن يقول لها: يا أمّاه اصبري فإنك على الحق.[/rtl]
إختلف المفسرون في تحديد هوية أصحاب الرس، ولكنهم اتفقوا على أن «الرس» بئر عظيمة أو حفير كبير، قال ابن عباس، أصحاب الرس أهل قرية من قرى ثمود، والرس بئر بأذربيجان، وقال القرطبي، إن «الرس» في كلام العرب هو البئر التي تكون غير مطوية أي غير مبنية، وقال عكرمة، الرس بئر دفنوا فيها نبيهم، وفي تفسير أبي السعود، أصحاب الرس هم قوم يعبدون الأصنام فبعث الله تعالى إليهم شعيباً فكذبوه، فبينما هم حول الرس إذ انهارت فخسف بهم وبديارهم.
قال الزمخشري، أصحاب الرس، كانوا قوما من عبدة الأصنام أصحاب آبار ومواش، فبعث الله إليهم شعيباً فدعاهم إلى الإسلام، فتمادوا في طغيانهم وفي إيذائه، فبيناهم حول الرس انهارت بهم فخسف بهم وبديارهم.
ذهب بعض المفسرين إلى أن أصحاب الرس، كانوا يبنون منازلهم حول بئر، فبينما هم حول البئر في منازلهم انهارت بهم وبديارهم، فخسف الله بهم فهلكوا جميعاً، وذكروا أن البئر كانت ترويهم وتكفي أرضهم جميعها، وكان لهم ملك عادل حسن السيرة، فلما مات وبعد أيام، تصور لهم الشيطان في صورته، وقال إني لم أمت، ولكن تغيبت عنكم حتى أرى صنيعكم، ففرحوا أشد الفرح وأمر بضرب حجاب بينهم وبينه، وأخبرهم أنه لا يموت أبدا، فصدق به أكثرهم وافتتنوا به وعبدوه، فبعث الله فيهم نبيا فأخبرهم أن هذا شيطان يخاطبهم من وراء الحجاب، ونهاهم عن عبادته، وأمرهم بعبادة الله، فعدوا عليه فقتلوه وألقوه في البئر، فغار ماؤها وعطشوا بعد ريهم، ويبست أشجارهم وانقطعت ثمارهم، وخربت ديارهم، وتبدلوا بعد الأنس بالوحشة وبعد الاجتماع بالفرقة وهلكوا عن أخرهم، وسكن في مساكنهم الجن والوحوش، فلا يسمع ببقاعهم إلا عزيف الجن وزئير الأسود وصوت الضباع. نهر الرس وقيل سموا أصحاب الرس، لأنهم رسوا نبيهم في الأرض، وذلك بعد سليمان عليه السلام وكانت لهم اثنتا عشرة قرية على شاطئ نهر يقال له «الرس» من بلاد المشرق، وبهم سمي النهر، ولم يكن يومئذ في الأرض نهر أغزر ولا أعذب منه ولا قرى أكثر ولا أعمر منها، وقد غرسوا في كل قرية منها حبة من طلع تلك الصنوبرة وأجروا إليها نهراً من العين، فنبتت الحبة وصارت شجرة عظيمة وحرموا ماء العين والأنهار، فلا يشربون منها ولا أنعامهم، ومن فعل ذلك قتلوه، ويقولون هو حياة آلهتنا فلا ينبغي لأحد أن ينقص من حياتنا ويشربون هم وأنعامهم من نهر الرس الذي عليه قراهم، وقد جعلوا في كل شهر من السنة في كل قرية عيدا يجتمع إليه أهلها فيضربون على الشجرة التي بها كلة من حرير فيها من أنواع الصور ثم يأتون بشاة وبقر فيذبحونها قرباناً للشجرة، ويشعلون فيها النيران بالحطب، فإذا سطع دخان الذبائح في الهواء وحال بينهم وبين النظر إلى السماء خروا سجداً يبكون ويتضرعون إليها أن ترضى عنهم.
فكان الشيطان يجيء، فيحرك أغصانها ويصيح من ساقها صياح الصبي أن قد رضيت عنكم عبادي فطيبوا نفساً وقروا عينا، فيرفعون رؤوسهم عند ذلك ويشربون الخمر ويضربون بالمعازف، فيكونون على ذلك يومهم وليلتهم ثم ينصرفون
لما طال كفرهم بالله عز وجل وعبادتهم غيره، بعث الله نبيا من بني إسرائيل من ولد يهودا بن يعقوب، فلبث فيهم زماناً طويلاً يدعوهم إلى عبادة الله عز وجل ومعرفة ربوبيته، فلا يتبعونه، فلما رأى شدة تماديهم في الغي وحضر عيد قريتهم العظمى، قال يا رب إن عبادك أبوا إلا تكذيبي وغدوا يعبدون شجرة لا تضر ولا تنفع، فأيبس شجرهم أجمع وأرهم قدرتك وسلطانك، فأصبح القوم وقد أيبس شجرهم كلها، فهالهم ذلك، فصاروا فرقتين، وأجمعوا رأيهم على قتله، فاتخذوا أنابيب طوالا ونزحوا ما في البئر من الماء، ثم حفروا في قرارها بئرا ضيقة المدخل عميقة وأرسلوا فيها نبيهم، وألقموا فاها صخرة عظيمة، وقالوا نرجو الآن أن ترضى عنا آلهتنا، بقوا يومهم يسمعون أنين نبيهم، حتى مات.
وهم في عيدهم جاءتهم ريح عاصف شديدة الحمرة، فتحيروا فيها وذعروا منها، ثم صارت الأرض من تحتهم تتوقد وأظلتهم سحابة سوداء، فألقت عليهم جمرا، فذابت أبدانهم كما يذوب الرصاص بالنار.
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: أنه كان شيخ كانت له جنة, وكان لا يُدخل بيته ثمرة منها ولا الى منزله حتى يعطي كل ذي حق حقه, فلما قبض الشيخ وورثه بنوهوكان له خمسة من البنين فخملت جنتهم في تلك السنة التي هلك فيها أبوهم لم تكن حملته من قبل ذلك, فراح الفتية الى جنتهم بعد صلاة العصر, فأشرفوا على ثمرة ورزق فاضل لم يعاينوا مثله في حياة ابيهمفلما نظروا طغوا وبغوا, وقال بعضهم لبعض: انّ آبانا كان شيخا كبيرا قد ذهب عقله وخرف, فهلموا نتعاهد ونتعاقد فيما بيننا ألا نعطي أحدا من فقراء المسلمين في عامنا هذا شيئا, حتى نستغني وتكثر أموالنا, ثم نستأنف الصنعة فيما يستقبل من السنين المقبلة, فرضي بذلك منهم أربعة وسخط الخامس وهو الذي قال تعالى فيه: قَالَ أَوۡسَطُهُمۡ أَلَمۡ أَقُل لَّكُمۡ لَوۡلَا تُسَبِّحُونَ..أي اتقوا الله وسيروا على منهج أبيكم تسلموا وتغنموا, فبطشوا به وضربوه ضربا مبرحا, فلما أيقن أنهم يريدون قتله دخل معهم في مشورتهم كارها لأمرهم غير طائع, فابتلاهم الله بذلك الذنب, وحال بينهم وبين ذلكم الرزق الذي كانوا أشرفوا عليه
هذه هي السنة الالهية في الخلق, لئن شكرتم لأزيدنكم, ولئن كفرتم انّ عذابي لشديد, وسنة الله عزوجل جارية الى يوم القيامة, ولن تجد لسنة الله تحويلا, ولن تجد لسنة الله تبديلا, ونافذة على كل من يُنكر حق الله عزوجل في المال الذي وهبه الله اياه, ولطالما أنّ السنن الالهية واحدة , اذن فلم البخل الذي يعترينا حتى نمنع حق الله في أموالنا؟ لم لا نعتبر من ابتلاءات لمن سبقنا ولمن يعاصرنا من الناس؟ ألسنا نعيش في هذه الحياة كتلاميذ الحياة مدرستهم وأحداثها مدرسوهم؟ وعلينا ألا نغتر بالأموال والأولاد بل ننفقها في طاعة الله ، وقد وعد الله عزوجل عباده أن يخلفهم بكل ما ما أنفقوا من أموال في طاعة الله, وكما في قوله تعالى في
ذهب بنو إسرائيل لنبيهم يوما.. سألوه: ألسنا مظلومين؟ قال: بلى.. قالوا: ألسنا مشردين؟ قال: بلى.. قالوا: ابعث لنا ملكا يجمعنا تحت رايته كي نقاتل في سبيل الله ونستعيد أرضنا ومجدنا. قال نبيهم وكان أعلم بهم: هل أنتم واثقون من القتال لو كتب عليكم القتال؟ قالوا: ولماذا لا نقاتل في سبيل الله، وقد طردنا من ديارنا، وتشرد أبناؤنا، وساء حالنا؟ قال نبيهم: إن الله اختار لكم طالوت ملكا عليكم. قالوا: كيف يكون ملكا علينا وهو ليس من أبناء الأسرة التي يخرج منها الملوك -أبناء يهوذا- كما أنه ليس غنيا وفينا من هو أغنى منه؟ قال نبيهم: إن الله اختاره، وفضله عليكم بعلمه وقوة جسمه. قالوا: ما هي آية ملكه؟ قال لهم نبيهم: يسترجع لكم التابوت تحمله الملائكة. ووقعت هذه المعجزة.. وعادت إليهم التوراة يوما.. ثم تجهز جيش طالوت، وسار الجيش طويلا حتى أحس الجنود بالعطش.. قال الملك طالوت لجنوده: سنصادف نهرا في الطريق، فمن شرب منه فليخرج من الجيش، ومن لم يذقه وإنما بل ريقه فقط فليبق معي في الجيش.. وجاء النهر فشرب معظم الجنود، وخرجوا من الجيش، وكان طالوت قد أعد هذا الامتحان ليعرف من يطيعه من الجنود ومن يعصاه، وليعرف أيهم قوي الإرادة ويتحمل العطش، وأيهم ضعيف الإرادة ويستسلم بسرعة. لم يبق إلا ثلاثمئة وثلاثة عشر رجلا، لكن جميعهم من الشجعان. كان عدد أفراد جيش طالوت قليلا، وكان جيش العدو كبيرا وقويا.. فشعر بعض -هؤلاء الصفوة- أنهم أضعف من جالوت وجيشه وقالوا: كيف نهزم هذا الجيش الجبار..؟! قال المؤمنون من جيش طالوت: النصر ليس بالعدة والعتاد، إنما النصر من عند الله.. (كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ).. فثبّتوهم. وبرز جالوت في دروعه الحديدية وسلاحه، وهو يطلب أحدا يبارزه.. وخاف منه جنود طالوت جميعا.. وهنا برز من جيش طالوت راعي غنم صغير هو داود.. كان داود مؤمنا بالله، وكان يعلم أن الإيمان بالله هو القوة الحقيقية في هذا الكون، وأن العبرة ليست بكثرة السلاح، ولا ضخامة الجسم ومظهر الباطل. وكان الملك، قد قال: من يقتل جالوت يصير قائدا على الجيش ويتزوج ابنتي.. ولم يكن داود يهتم كثيرا لهذا الإغراء.. كان يريد أن يقتل جالوت لأن جالوت رجل جبار وظالم ولا يؤمن بالله.. وسمح الملك لداود أن يبارز جالوت.. وتقدم داود بعصاه وخمسة أحجار ومقلاعه (وهو نبلة يستخدمها الرعاة).. تقدم جالوت المدجج بالسلاح والدروع.. وسخر جالوت من داود وأهانه وضحك منه، ووضع داود حجرا قويا في مقلاعه وطوح به في الهواء وأطلق الحجر. فأصاب جالوت فقتله. وبدأت المعركة وانتصر جيش طالوت على جيش جالوت. بعد فترة أصبح داود -عليه السلم- ملكا لبني إسرائيل، فجمع الله على يديه النبوة والملك مرة أخرى.
النبي سليمان بن داوود عليهما الصلاة والسلام وهبه الله عزوجل الحكمة والملك الى جانب النبوة, وسخر الله تبارك وتعالى له كل من الانس والجن والريح والحيوان لخدمته, وعلمّهُ لغة الطيور أيضا.
تفقد الطير, وعندما لم يجد الهدهد بينها سأل أحد جنوده عنه :لماذا تخلف الهدهد من غير أن أعرف, وأخذ يتوعد الهدهد فقال: ان لم يُبيِّنَ لي عذره عن غيابه لأعذبنه أو لأذبحنه, وهذا ما عبّر عنه القرآن الكريم بقوله تعالى: فقال ماليَ لا أرى الهدهدَ أم كان من الغائبين * لأُعذِبَنَّهُ عذاباً شديداً لأو لأذبَحَنَّهُ , أوْ ليأتيَنِّي بسلطان مبين
وما انتهى سليمان عليه الصلاة والسلام من تهديده ووعيده للهدهد حتى حطّ الهدهد بين يديّ سليمان عليه الصلاة والسلام معانا له الولاء والطاعة, مبيناً له سبب غيابه بكل ذلَ واعتذار وانكسار, وكأنّ لسان حاله يقول: سيدي! لقد طفتُ في اللآفاق, ورفرفت بجناحيَّ فوق كلِّ بعيد فوق الأمصار, وعلمت أمراً تجهلَهُ وهو يهمكَ, وجدت أنّ هناك في سبأ في اليمن أمراً عجيباً, امرأةً تحكمُ البلاد والعباد, وتسيطر على مقدراتالأمور من الغنى والسلطان والنفوذ والجمال, وأما آية الآيات سيدي, فهو عرشها الذي تجلس عليه, لم أرى في الدنيا ملكاً له مثل عرشها, كله فخامةً وروعةً وجمالاً وأُبّهةً, والعجب العجيب من أم هذه الملكة ومن تحكمهم يا سيدي, أنهم يعبدون الشيطان, يعبدون الشمس من دون الله الملك المستحق وحده عزوجل للعبادة.
وهذا ما عبّر عنه القرآن الكريم بقوله تعالى:
اني وجدتُ امرأةً تملِكُهُمْ وأُتيتْ من كل شيء ولها عرشٌ عظيم , وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزيّنَ لهم الشيطان اعمالهُمْ فصدُّوا عن السبيل فهم لايهتدون
وما أن أنهى الهدهد كلامه حتى قبل سليمان عليه الصلاة والسلام اعتذاره مبررا سببا غيابه وقال له: لن أقبل عذرك حتى أتأكد مما تقول, ثم كتب سليمان عليه الصلاة والسلام رسالة الى ملكة سبأ, وكلف الهدهد بحملها وقال له: أوصلها اليها دون أن تشعر بك أو تراك أو يراك أحد من جنودها, وتوارى عن الانظار وانظر من بعيد ماذا يحدث من أمرهم, وهذا ما عبّر عنه القرآن الكريم بقوله تعالى:
قال سننظرُ أصدقتَ أمْ كنتَ من الكاذبين * اذهب بكتاب هذا فألقِهِ اليهم ثم تولَّ عنهم فانظر ماذا يرجعون
حمل الهدهد الرسالة وطار بها محلقاً في الآفاق يقطع المسافة ما بين بيت المقدس بفلسطين وما بين سبأ باليمن, وأخذ يسابق الريح والسحاب, ثمّ حطّ عند نافذة مخدع الملكة, وتفقد الغرفة من الداخل وعندما لم يرى أحداً ألقى بالكتاب فوق السرير, ثم عاد الى مكانه الى النافذة يواري نفسه خلف ستائرها ليرقب ماذا سيحدث تماما كما أمره سيده عليه الصلاة والسلام.
وما أن اوت الملكة الى مخدعها وقد استعدت الى النوم حتى فوجئت بلفافة مطروحة على سريرها, وما أن فتحتها حتى قرأت ما فيها, وما كادت تأتِ على آخر جملة منها حتى تغيّرت معالم وجهها, وأخذت تتلفت يمنة ويسرة علها تجد اجابة لسؤالها: كيف وصلت الرسالة الى سريرها, وما أن لبثت أن هدأت ونامت وهي تكرر قراءة قوله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم.
ومع انبلاج ضوء الصباح حتى أوعزت الى كبرى وصيفاتها تملي عليها الأمر بأن تستدعي جميع أعضاء مجلس الحكم والشورى لعقد جلسة طائة في منهى الأهمية, وما أن اجتمع الجمع حتى جلست على عرشها ثم قصّت عليهم قصة الرسالة التي وجدتها على سريرها, ولأنذ الملكة تعلم قوة سليمان عليه الصلاة والسلام ونفوذه وسلطانه , وانه جادٌّ بتحذيره وانذاره, فقد جمعت مستشاريها لاتخاذ موقف موحد فيما بينهم, فقالت لهم: يا أيها الملأ! اني أعلم وبحكم خبرتي وتجربتي أنّ الملوك اذا دخلوا قرية أفسدوها , وانا لا اريد لبلدي أن يتعرض لمحنة قاسية على أيدي سليمان وجنوده, واني سأرسل له هدية من خلالها أختبر حقيقة نواياه, فوافقوها رأيها ومعالجتها للأمر, ثم جمعت ما قلّ حمله وارتفع ثمنه من الجواهر واللآليء وكل شيء نفيس, وبعثت بها الى سليمان عليه الصلاة والسلام, وهذا ما عبّر عنه القرآن الكريم بقوله تعالى:
قالت يا أيها الملأ اني أُلقيَ اليَّ كتابٌ كريم * انه من سليمان وانه بسم الله الرحمن الرحيم * ألّا تعلوا عليَّ وأْتوني مسلمين * قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنتُ قاطعةً أمراً حتى تشهدون * قالوا نحنُ أولوا قوةٍ وأولوا بأسٍ شديد والأمرُ اليكِ فانظري ماذا تأمرين * قالت انّ الملوك اذا دخلوا قريةً أفسدوها وجعلوا أعزّةَ أهلها أذلّةً, وكذلك يفعلون * واني مرسلةٌ اليهم بهديّةٍ فناظرةٌ بمَ يرجِعُ المرسلين
تُرى ماذا سيكون وقْعُ الهدية على نفس سليمان عليه الصلاة والسلام فيما لو كان ملكا من ملوك الدنيا الطامعين في الحكم والسلطان والسيطرة والنفوذ والجاه؟ مؤكد أنه سيفرح بهدية الملكة وسيغضُّ الطرف عنها ويطوي الأمر وكأنه لم يكن, لكننا هنا مع نبي من أنبياء الله عزوجل, المترقي فوق ماديات الحياة والبشر, نبيٌّ سما فوق الذهب والفضة والجواهر وكل ما في الدنيا من نفيس.
وما أن بلغ رسل الملكة بيت المقدس حاملين هداياهم , دخلوا على سليمان عليه الصلاة والسلام فرحين مزهوين بها , وما أن قدموها اليه حتى قال عليه الصلاة والسلام لهم قوله تعالى:
أتمدوننِ بمالٍ فما آتانِ اللهُ خير ٌ مما آتاكم, بل أنتم بهديتكم تفرحون * ارجعْ اليهم فنأتينهم بجنودٍ لا قِبَلَ لهم بها ولنُخرِجَنَّهُمْ منها أذلةً وهم صاغرون
ثم قال عليه الصلاة والسلام قوله تعالى: قال يا أيها الملأ أيُّكمْ يأتيني بعرشها قبل أنْ يأْتوني مسلمين * قال عفريتٌ من الجنِّ أنا آتيكَ به, قبلَ أنْ تقومَ من مقامكَ, واني عليه لقويٌّ أمين *
لكنّ سليمان عليه الصلاة والسلام يريد سرعةً أكبر من سرعة العفريت, وما أن أشاحً بوجهه عن العفريت حتى قام آخر عنده علم أوسع من علم العفريت وقال أنا أتيك به قبل أن ترمش عيونك, وما أن رىه سليمان عليه الصلاة والسلام أمامه حتى شكر الله عزوجل بكل ضراعة وايمان وخشوع على هذا الفضل الكبير الذي تفضّلَ به الله عزوجل عليه وأنعم عليه به, وهذا ما عبّر عنه القرآن الكريم بقوله تعالى:
قال الذي عندهُ , علمً من الكتابِ أنا آتيكَ بهِو قبلَ أنْ يرتدَّ اليكَ طَرْفُكَ , فلما رآهُ مستقراً عندهُ, قال هذا من فضل ربي ليبلونيّ أأشكرُ أمْ أكفرُ, ومنْ شكرَ فانما يشكرُ لنفسه, ومن كفرَ فانّ ربي غنيٌّ كريم.
في هذه الأثناء وبعد أن ردّ سليمان عليه الصلاة والسلام هدية الملكة , كانت قد هيأت نفسها وجمعت كبراء حاشيتها, وغادرت مملكتها متوجهة الى بيت المقدس في موكب ملكي مهيب, رغبةً منها في السلم قبل أن ينفذ سليمان عليه الصلاة والسلام تهديده وتحذيره وانذاره لها ولشعبها, وما أن دخلت بيت المقدس معلنة ولاءها دون أن تدري ماذا حلّ بعرشها وأنه قد سبقها بالصول الى بيت المقدس بقدرة من أمره بين الكاف والنون, بقدرة عزيز مقتدر سبحانه وتعالى عما يشركون.
وما أن علم سليمان عليه الصلاة والسلام بقدومها وأنها باتت على مشارف بيت المقدس حتى أمر جنوده باستقدام عرشها, وما أن دخلت على سليمان عليه الصلاة والسلام في مجلسه حتى قوبلت بالترحاب على عادة الملوك, وما أن استقر بها الجلوس حتى عرض عليها عرشها, فنظرت ناحية العرش نظرة استغراب وقالت: كأنه هو, ولاو أنها آمنت بالله العظيم لعلمت بأنّ قدرة الله تعالى لاحدّ لها ولكنه الجهل الذي يسيطر على أهل الكفر, وهذا ما عبّر عنه القرآن الكريم بقوله تعالى:
قال نكِّروا لها عرشها ننظرُ أتهتدي أم تكونُ من الذين لا يهتدون * فلما جاءتْ قيلَ أهكذا عرشُكِ, قالت كأنه هو
وحُقَّ لسليمان عليه الصلاة والسلام أن يقول قول الله عزوجل:
وأُتينا العلمً منْ قبلها وكنا مسلمين * وصدّها ما كانتْ تعبُدُ من دون الله , انها كانت من قومٍ كافرين
ثمّ قام سليمان عليه الصلاة والسلام من مجلسه, وتبعته الملكة والحاضرون, واتجه الموكب الى قاعات القصر الداخلية الى وصلوا الصرحِ, وكان مكاناً فسيحاً رحباً, تحيط به الأروقة ذات الأعمدة, وقد آثر عليه الصلاة والسلام للملكة أن تتقدمه لحكمة الهية, وما أن وضعت قدمها على بلاط الصرح حتى كشفت عن ساقيها ؟ لماذا؟ لأنها حين رأت انعكاس مقدمة الموكب والأعمدة على أرض الصرح ظنّت أنّ الأرض مبتلة بالماء كلجة مائية رائقة صافية, وعندما أدرك سليمان عليه الصلاة والسلام اعتقادها تبسم من فعلها وأخبرها بأنّ لا ماء في الصرح كما يُخيّلُ اليك , وانما أرضه مبلطة بالبللور الشفاف, هنا وأمام هذا المنظر البديع والذي هو من صنع البديع طأطات الملكة رأسها أمام كل هذا الملك والعلم الذي وهبه الله عزوجل لنبيه سليمان عليه الصلاة والسلام , وامام هذه القوة العظيمة التي منحت لسليمان عليه الصلاة والسلام لم تتوانى عن اقرارها بذنبها , واستغفرت الله تعالى وأسلمت لله ربّ العالمين, وهذا ما عبّر عنه القرآن الكريم بقوله تبارك وتعالى:
قيلَ لها ادخلي الصرح, فلما رأتْهُ لُجَّةً وكشفَتْ عن ساقيها, قالت انه صرْحٌ مُمَّرَّدٌ من قواريرَ, قالت ربّ اني ظلمتُ نفسي وأسلمتُ مع سليمان للهِ ربّ العالمين
كان لموسى -عليه السلام- هدف من رحلته هذه التي اعتزمها،, وأنه كان يقصد من ورائها امرا، فهو يعلن عن تصميمه على بلوغ مجمع البحرين مهما تكن المشقة، ومهما يكن الزمن الذي ينفه في الوصول. فيعبر عن هذا التصميم قائلا (أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا). نرى أن القرآن الكريم لا يحدد لنا المكان الذي وقت فيه الحوادث، ولا يحدد لنا التاريخ، كما أنه لم يصرح بالأسماء. ولم يبين ماهية العبد الصالح الذي التقاه موسى، هل هو نبي أو رسول؟ أم عالم؟ أم ولي؟
اختلف المفسرون في تحديد المكان، فقيل إنه بحر فارس والروم، وقيل بل بحر الأردن أو القلزم، وقيل عند طنجة، وقيل في أفريقيا، وقيل هو بحر الأندلس.. ولا يقوم الدليل على صحة مكان من هذه الأمكنة، ولو كان تحديد المكان مطلوبا لحدده الله تعالى.. وإنما أبهم السياق القرآني المكان، كما أبهم تحديد الزمان، كما ضبب أسماء الأشخاص لحكمة عليا. إن القصة تتعلق بعلم ليس هو علمنا القائم على الأسباب.. وليس هو علم الأنبياء القائم على الوحي.. إنما نحن أمام علم من طبيعة غامضة أشد الغموض.. علم القدر الأعلى، وذلك علم أسدلت عليه الأستار الكثيفة.. مكان اللقاء مجهول كما رأينا.. وزمان اللقاء غير معروف هو الآخر.. لا نعرف متى تم لقاء موسى بهذا العبد.
وهكذا تمضي القصة بغير أن تحدد لك سطورها مكان وقوع الأحداث، ولا زمانه، يخفي السياق القرآني أيضا اسم أهم أبطالها.. يشير إليه الحق تبارك وتعالى بقوله: (عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا) هو عبد أخفى السياق القرآني اسمه.. هذا العبد هو الذي يبحث عنه موسى ليتعلم منه.
لقد خص الله تعالى نبيه الكريم موسى -عليه السلام- بأمور كثيرة. فهو كليم الله عز وجل، وأحد أولى العزم من الرسل، وصاحب معجزة العصا واليد، والنبي الذي أنزلت عليه التوراة دون واسطة، وإنما كلمه الله تكليما.. هذا النبي العظيم يتحول في القصة إلى طالب علم متواضع يحتمل أستاذه ليتعلم.. ومن يكون معلمه غير هذا العبد الذي يتجاوز السياق القرآني اسمه، وإن حدثتنا السنة المطهرة أنه هو الخضر -عليه السلام- كما حدثتنا أن الفتى هو يوشع بن نون ، ويسير موسى مع العبد الذي يتلقى علمه من الله بغير أسباب التلقي الني نعرفها. ومع منزلة موسى العظيمة إلا أن الخضر يرفض صحبة موسى.. يفهمه أنه لن يستطيع معه صبرا.. ثم يوافق على صحبته بشرط.. ألا يسأله موسى عن شيء حتى يحدثه الخضر عنه. والخضر هو الصمت المبهم ذاته، إنه لا يتحدث، وتصرفاته تثير دهشة موسى العميقة.. إن هناك تصرفات يأتيها الخضر وترتفع أمام عيني موسى حتى لتصل إلى مرتبة الجرائم والكوارث.. وهناك تصرفات تبدو لموسى بلا معنى.. وتثير تصرفات الخضر دهشة موسى ومعارضته.. ورغم علم موسى ومرتبته، فإنه يجد نفسه في حيرة عميقة من تصرفات هذا العبد الذي آتاه الله من لدنه علما. وقد اختلف العلماء في الخضر: فيهم من يعتبره وليا من أولياء الله، وفيهم من يعتبره نبيا.. وقد نسجت الأساطير نفسها حول حياته ووجوده، فقيل إنه لا يزال حيا إلى يوم القيامة، وهي قضية لم ترد بها نصوص أو آثار يوثق فيها، فلا نقول فيها إلا أنه مات كما يموت عباد الله.. وتبقى قضية ولايته، أو نبوته.. وسنرجئ الحديث في هذه القضية حتى ننظر في قصته كما أوردها القرآن الكريم. قام موسى خطيبا في بني إسرائيل، يدعوهم إلى الله ويحدثهم عن الحق، ويبدو أن حديثه جاء جامعا مانعا رائعا.. بعد أن انتهى من خطابه سأله أحد المستمعين من بني إسرائيل: هل على وجه الأرض أحد اعلم منك يا نبي الله؟ قال موسى مندفعا: لا.. وساق الله تعالى عتابه لموسى حين لم يرد العلم إليه، فبعث إليه جبريل يسأله: يا موسى ما يدريك أين يضع الله علمه؟ أدرك موسى أنه تسرع.. وعاد جبريل، عليه السلام، يقول له: إن لله عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك. تاقت نفس موسى الكريمة إلى زيادة العلم، وانعقدت نيته على الرحيل لمصاحبة هذا العبد العالم.. سأل كيف السبيل إليه.. فأمر أن يرحل، وأن يحمل معه حوتا في مكتل، أي سمكة في سلة.. وفي هذا المكان الذي ترتد فيه الحياة لهذا الحوت ويتسرب في البحر، سيجد العبد العالم.. انطلق موسى -طالب العلم- ومعه فتاه.. وقد حمل الفتى حوتا في سلة.. انطلقا بحثا عن العبد الصالح العالم.. وليست لديهم أي علامة على المكان الذي يوجد فيه إلا معجزة ارتداد الحياة للسمكة القابعة في السلة وتسربها إلى البحر. ويظهر عزم موسى -عليه السلام- على العثور على هذا العبد العالم ولو اضطره الأمر إلى أن يسير أحقابا وأحقابا. قيل أن الحقب عام، وقيل ثمانون عاما. على أية حال فهو تعبير عن التصميم، لا عن المدة على وجه التحديد. وصل الاثنان إلى صخرة جوار البحر.. رقد موسى واستسلم للنعاس، وبقي الفتى ساهرا.. وألقت الرياح إحدى الأمواج على الشاطئ فأصاب الحوت رذاذ فدبت فيه الحياة وقفز إلى البحر.. (فاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا).. وكان تسرب الحوت إلى البحر علامة أعلم الله بها موسى لتحديد مكان لقائه بالرجل الحكيم الذي جاء موسى يتعلم منه. نهض موسى من نومه فلم يلاحظ أن الحوت تسرب إلى البحر.. ونسي فتاه الذي يصحبه أن يحدثه عما وقع للحوت.. وسار موسى مع فتاه بقية يومهما وليلتهما وقد نسيا حوتهما.. ثم تذكر موسى غداءه وحل عليه التعب.. (قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا).. ولمع في ذهن الفتى ما وقع.
ساعتئذ تذكر الفتى كيف تسرب الحوت إلى البحر هناك.. وأخبر موسى بما وقع، واعتذر إليه بأن الشيطان أنساه أن يذكر له ما وقع، رغم غرابة ما وقع، فقد اتخذ الحوت (سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا).. كان أمرا عجيبا ما رآه يوشع بن نون ، لقد رأى الحوت يشق الماء فيترك علامة وكأنه طير يتلوى على الرمال.
سعد موسى من مروق الحوت إلى البحر و(قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ).. هذا ما كنا نريده.. إن تسرب الحوت يحدد المكان الذي سنلتقي فيه بالرجل العالم.. ويرتد موسى وفتاه يقصان أثرهما عائدين.. انظر إلى بداية القصة، وكيف تجيء غامضة أشد الغموض، مبهمة أعظم الإبهام. أخيرا وصل موسى إلى المكان الذي تسرب منه الحوت.. وصلا إلى الصخرة التي ناما عندها، وتسرب عندها الحوت من السلة إلى البحر.. وهناك وجدا رجلا. يقول البخاري إن موسى وفتاه وجدا الخضر مسجى بثوبه.. وقد جعل طرفه تحت رجليه وطرف تحت رأسه. فسلم عليه موسى، فكشف عن وجهه وقال: هل بأرضك سلام..؟ من أنت؟ قال موسى: أنا موسى. قال الخضر: موسى بني إسرائيل.. عليك السلام يا نبي إسرائيل. قال موسى: وما أدراك بي..؟ قال الخضر: الذي أدراك بي ودلك علي.. ماذا تريد يا موسى..؟ قال موسى ملاطفا مبالغا في التوقير: (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا). قال الخضر: أما يكفيك أن التوراة بيديك.. وأن الوحي يأتيك..؟ يا موسى (إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا).
نريد أن نتوقف لحظة لنلاحظ الفرق بين سؤال موسى الملاطف المغالي في الأدب.. ورد الخضر الحاسم، الذي يفهم موسى أن علمه لا ينبغي لموسى أن يعرفه، كما أن علم موسى هو علم لا يعرفه الخضر.. يقول المفسرون إن الخضر قال لموسى: إن علمي أنت تجهله.. ولن تطيق عليه صبرا، لأن الظواهر التي ستحكم بها على علمي لن تشفي قلبك ولن تعطيك تفسيرا، وربما رأيت في تصرفاتي ما لا تفهم له سببا أو تدري له علة.. وإذن لن تصبر على علمي يا موسى. احتمل موسى كلمات الصد القاسية وعاد يرجوه أن يسمح له بمصاحبته والتعلم منه.. وقال له موسى فيما قال إنه سيجده إن شاء الله صابرا ولا يعصي له أمرا. تأمل كيف يتواضع كليم الله ويؤكد للعبد المدثر بالخفاء أنه لن يعصي له أمرا. قال الخضر لموسى -عليهما السلام- إن هناك شرطا يشترطه لقبول أن يصاحبه موسى ويتعلم منه هو ألا يسأله عن شيء حتى يحدثه هو عنه.. فوافق موسى على الشرط وانطلقا.. انطلق موسى مع الخضر يمشيان على ساحل البحر.. مرت سفينة، فطلب الخضر وموسى من أصحابها أن يحملوهما، وعرف أصحاب السفينة الخضر فحملوه وحملوا موسى بدون أجر، إكراما للخضر، وفوجئ موسى حين رست السفينة وغادرها أصحابها وركابها.. فوجئ بأن الخضر يتخلف فيها، لم يكد أصحابها يبتعدون حتى بدأ الخضر يخرق السفينة.. اقتلع لوحا من ألواحها وألقاه في البحر فحملته الأمواج بعيدا. فاستنكر موسى فعلة الخضر. لقد حملنا أصحاب السفينة بغير أجر.. أكرمونا.. وها هو ذا يخرق سفينتهم ويفسدها.. كان التصرف من وجهة نظر موسى معيبا.. وغلبت طبيعة موسى المندفعة عليه، كما حركته غيرته على الحق، فاندفع يحدث أستاذه ومعلمه وقد نسي شرطه الذي اشترطه عليه: (قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا). وهنا يلفت العبد الرباني نظر موسى إلى عبث محاولة التعليم منه، لأنه لن يستطيع الصبر عليه (قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا)، ويعتذر موسى بالنسيان ويرجوه ألا يؤاخذه وألا يرهقه (قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا).
سارا معا.. فمرا على حديقة يلعب فيها الصبيان.. حتى إذا تعبوا من اللعب انتحى كل واحد منهم ناحية واستسلم للنعاس.. فوجئ موسى بأن العبد الرباني يقتل غلاما.. ويثور موسى سائلا عن الجريمة التي ارتكبها هذا الصبي ليقتله هكذا.. يعاود العبد الرباني تذكيره بأنه أفهمه أنه لن يستطيع الصبر عليه (قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا).. ويعتذر موسى بأنه نسي ولن يعاود الأسئلة وإذا سأله مرة أخرى سيكون من حقه أن يفارقه (قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْرًا). ومضى موسى مع الخضر.. فدخلا قرية بخيلة.. لا يعرف موسى لماذا ذهبا إلى القرية، ولا يعرف لماذا يبيتان فيها، نفذ ما معهما من الطعام، فاستطعما أهل القرية فأبوا أن يضيفوهما.. وجاء عليهما المساء، وأوى الاثنان إلى خلاء فيه جدار يريد أن ينقض.. جدار يتهاوى ويكاد يهم بالسقوط.. وفوجئ موسى بأن الرجل العابد ينهض ليقضي الليل كله في إصلاح الجدار وبنائه من جديد.. ويندهش موسى من تصرف رفيقه ومعلمه، إن القرية بخيلة، لا يستحق من فيها هذا العمل المجاني (قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا).. انتهى الأمر بهذه العبارة.. قال عبد الله لموسى: (هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ). لقد حذر العبد الرباني موسى من مغبة السؤال. وجاء دور التفسير الآن.. إن كل تصرفات العبد الرباني التي أثارت موسى وحيرته لم يكن حين فعلها تصدر عن أمره.. كان ينفذ إرادة عليا.. وكانت لهذه الإرادة العليا حكمتها الخافية، وكانت التصرفات تشي بالقسوة الظاهرة، بينما تخفي حقيقتها رحمة حانية.. وهكذا تخفي الكوارث أحيانا في الدنيا جوهر الرحمة، وترتدي النعم ثياب المصائب وتجيد التنكر، وهكذا يتناقض ظاهر الأمر وباطنه، ولا يعلم موسى، رغم علمه الهائل غير قطرة من علم العبد الرباني، ولا يعلم العبد الرباني من علم الله إلا بمقدار ما يأخذ العصفور الذي يبلل منقاره في البحر، من ماء البحر.. كشف العبد الرباني لموسى شيئين في الوقت نفسه.. كشف له أن علمه -أي علم موسى- محدود.. كما كشف له أن كثيرا من المصائب التي تقع على الأرض تخفي في ردائها الأسود الكئيب رحمة عظمى. إن أصحاب السفينة سيعتبرون خرق سفينتهم مصيبة جاءتهم، بينما هي نعمة تتخفى في زي المصيبة.. نعمة لن تكشف النقاب عن وجهها إلا بعد أن تنشب الحرب ويصادر الملك كل السفن الموجودة غصبا، ثم يفلت هذه السفينة التالفة المعيبة.. وبذلك يبقى مصدر رزق الأسرة عندهم كما هو، فلا يموتون جوعا. أيضا سيعتبر والد الطفل المقتول وأمه أن كارثة قد دهمتهما لقتل وحيدهما الصغير البريء.. غير أن موته يمثل بالنسبة لهما رحمة عظمى، فإن الله سيعطيهما بدلا منه غلاما يرعاهما في شيخوختهما ولا يرهقهما طغيانا وكفرا كالغلام المقتول. وهكذا تختفي النعمة في ثياب المحنة، وترتدي الرحمة قناع الكارثة، ويختلف ظاهر الأشياء عن باطنها حتى ليحتج نبي الله موسى إلى تصرف يجري أمامه، ثم يستلفته عبد من عباد الله إلى حكمة التصرف ومغزاه ورحمة الله الكلية التي تخفي نفسها وراء أقنعة عديدة. أما الجدار الذي أتعب نفسه بإقامته، من غير أن يطلب أجرا من أهل القرية، كان يخبئ تحته كنزا لغلامين يتيمين ضعيفين في المدينة. ولو ترك الجدار ينقض لظهر من تحته الكنز فلم يستطع الصغيران أن يدفعا عنه.. ولما كان أبوهما صالحا فقد نفعهما الله بصلاحه في طفولتهما وضعفهما، فأراد أن يكبرا ويشتد عودهما ويستخرجا كنزهما وهما قادران على حمايته. ثم ينفض الرجل يده من الأمر. فهي رحمة الله التي اقتضت هذا التصرف. وهو أمر الله لا أمره. فقد أطلعه على الغيب في هذه المسألة وفيما قبلها، ووجهه إلى التصرف فيها وفق ما أطلعه عليه من غيبه. واختفى هذا العبد الصالح.. لقد مضى في المجهول كما خرج من المجهول.. إلا أن موسى تعلم من صحبته درسين مهمين: تعلم ألا يغتر بعلمه في الشريعة، فهناك علم الحقيقة. وتعلم ألا يتجهم قلبه لمصائب البشر، فربما تكون يد الرحمة الخالقة تخفي سرها من اللطف والإنقاذ، والإيناس وراء أقنعة الحزن والآلام والموت. هذه هي الدروس التي تعلمها موسى كليم الله عز وجل ورسوله من هذا العبد المدثر بالخفاء.