التدرج في خلق الإنسان - د. أمين الدميري
د. أمين الدميري
التدرج في خلق الإنسان
لا شك أن آدم عليه السلام هو أبو البشر جميعًا، وقد خلقه الله تعالى من العدم خلقًا مستقلاًّ في نوعه، لم يتخلق ذاتيًّا، ولم يَخلُقْ نفسه بنفسه، ولم تخلقه العناصر التي ركب منها، ولكنْ خلقه الله تعالى بيده، ونفخ فيه من روحه، قال تعالى: ﴿ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ﴾ [ص: 71، 72]، وقد مرَّت عملية خلق آدم عليه السلام بمراحل متدرجة، وقد ذكرها الله تعالى في كتابه، وهي:
المرحلة الأولى: التراب، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ﴾ [الحج: 5]، وقد تم خلط التراب بالماء فصار طينًا، وهي:
المرحلة الثانية: الطين، قال تعالى: ﴿ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ ﴾ [ص: 71]، ثم تحوَّل الطين إلى حالة أخرى، وهي:
المرحلة الثالثة: الحمأ المسنون، وهو الطين الأسود المنتن المتغيِّر.
المرحلة الرابعة: الصلصال، قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ ﴾ [الحجر: 26]، والصلصال هو الحالة التي تشكَّل منها آدم عليه السلام، وتمت منه عملية التسوية.
يقول الإمام الفخر الرازي:
"والأقرب أنه تعالى خلقه أولاً من تراب، ثم من طين، ثم من حمأ مسنون، ثم من صلصال كالفخار"[1].
ويقول - رحمه الله -:
"إن المادة البعيدة هو التراب، وأقرب منه الطين، وأقرب منه الحمأ المسنون، وأقرب منه الصلصال، فثبت أنه لا منافاة بين الكل"[2].
المرحلة الخامسة: التسوية.
المرحلة السادسة: النفخ.
وبمجرد أن تمت عملية النفخ صار التراب إنسانًا عاقلاً مفكرًا، له قلب ينبض، وله مشاعر وأحاسيس، وله شهوات ونزعات، وله إرادة واختيار، ذا طبيعة مزدوجة: مادة من تراب الأرض، ونفخة من رُوح الله، يتدرَّج إلى أعلى درجات التقوى، أو يتدنى إلى أسفل دركات الفجور.
إنه الإنسان، يأنس بغيره، ويحتاج إليه، اجتماعي بطبعه، يحب ويكره، يبكي ويضحك، يأكل ويشرب، ينام ويصحو، يمشي ويكدح، متغير الأطوار، تتجلَّى فيه عظمة الخالق سبحانه، وقدرته في الخلق والإنشاء، مَن يتأمل تكوينه وتركيبه يسجد عقله لخالقه - سبحانه وتعالى - قائلاً: ﴿ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾ [المؤمنون: 14].
هكذا تمت عملية خلق آدم عليه السلام، مع أن الله تعالى قادر أن يخلقه في لحظة أو جزء منها، أو بكلمة واحدة، ولكن الله تعالى يعلمنا الإعداد والترتيب والإحكام في كل شيء، فالتمام وبلوغ الكمال لا بد أن يتم على مراحلَ وخطوات متدرجة، وكذلك كان خلق الذرية.
وكما كان خلق آدم من تراب، فكذلك كل إنسان؛ لأن التراب الذي هو مادة الأرض هو مصدر كل غذاء، ويتحول الغذاء في جسم الإنسان إلى نُطَف، فماء الرجل وماء المرأة إنما هما مما يتغذَّاه الإنسان ذكرًا كان أم أنثى، وحينما يتم اللقاء ويصب الرجل ماءه (المني) في بيئة غير بيئتِه ووسطًا (حمضيًّا، موضع الحرث ومصب المني) يختلف عن وسطه (القلوي)، فيبحث عن مخرج ويفر هاربًا مسرعًا في موكب من أقرانه يعد بالملايين في سباق سبقه القدر، وكتب الله مَن الفائز بتلقيح البويضة الساكنة المستقرة داخل الرحم في انتظار اللقاء المقدر، وتبدأ مراحل التكوين، حيث تتجلى مظاهر القدرة والعناية الإلهية في أروع ما يكون.
وسوف أتناول عملية خلق الإنسان من خلال القرآن الكريم والأحاديث النبوية؛ لبيان سنة التدرج في الخلق، ولكن هناك بعض الحقائق واللطائف التي أحب أن أشير إليها؛ لنقف على آيات الله وقدرته في خلق الإنسان، ولتسجد عقولنا وأفهامنا مُقرَّةً ومعترفة بعظمة القرآن الكريم، المعجزة الخالدة إلى يوم الدين، والذي وصف لنا عملية الخلق بتفصيل وإعجاز، اهتدى به العلم الحديث، وخصوصًا علم الأجنة، فأقول:
أولاً: إن القرآن الكريم شرح بالتفصيل العلمي الدقيق مراحلَ خلق الإنسان منذ أول سورة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ ﴾ [العلق: 1، 2]، ولا عجب؛ فالإنسان هو موضوع هذا القرآن؛ لذا فهو يخاطِب عقله ووجدانه، وينسجم مع فطرته وتكوينه، ثم تتابعت الآيات والسور التي تناولت هذه العملية بتدرج وترتيب يتفقُ مع حقائق علم الأجنة البشرية المعروف حديثًا.
ثانيًا: إن جملة عدد السور التي تحدَّثت عن خلق الإنسان يصل إلى ثمانٍ وعشرين سورة، ومن عجائب تقدير الله - عز وجل - أن هذا العدد يتفق مع عدد أيام الدورة الشهرية للمرأة الطبيعية، وأن عدد الآيات في الثماني والعشرين سورة قد بلغت أربعين آية، وقد أقر علم الأجنة الحديث أن الجنين يمكث في بطن أمه فترة زمنية تقدر بأربعين أسبوعًا؛ (أي 280 يومًا تحتسب من بدء آخر حيضة حاضتها المرأة الطبيعية) لكى يتم ولادته[3].
ثالثًا: إن عملية خلق الإنسان مرت بمراحل متدرجة تبدأ بالنطفة، وتنتهي بالإنسان المتكامل، وإن ذلك ينقسم إلى مرحلتين:
الأولى: ما قبل الولادة.
الثانية: ما بعد الولادة.
أولاً: مرحلة ما قبل الولادة:
وتمر هذه المرحلة بالمراحل أو الخطوات الآتية:
1- مرحلة ما قبل زرع البويضة المخصبة:
وفي هذه الفترة الزمنية المحددة، والتي تكونت فيها الحيوانات المنوية، وقذفها أمام عنق الرحم أثناء فترة التبويض، وتنتهي هذه المرحلة بتكوين البويضة المخصبة، أو النطفة الأمشاج، قال تعالى: ﴿ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾ [الإنسان: 2].
2- مرحلة زرع البويضة المخصبة، وتطورها إلى جنين:
وتنقسم إلى ثلاث مراحل:
أ- مرحلة التثبيت، وهي مرحلة ما قبل تكوين الكتل البدنية، وهي تنطبق تمامًا مع مرحلة العلقة التي أشار إليها القرآن، قال تعالى: ﴿ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ ﴾ [العلق: 2].
ب- مرحلة تكوين الكتل البدنية، وقد عرفها القرآن بمرحلة المُضغة.
ج- مرحلة تكوين الأعضاء، وهذه المرحلة تتميز فيها الغدة التناسلية إلى خصية أو مبيض للجنين (ذكر أو أنثى)، ويبدأ كذلك بوادر الجهاز العظمي، والجهاز العضلي، وهي التي قال الله تعالى عنها: ﴿ فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ﴾ [المؤمنون: 14].
3- مرحلة التحول الفاصلة من جنين إلى طفل (حميل):
وهي تبدأ من الشهر الثالث، وتنتهي بآلام الطلق والولادة، وهي التي قال الله - عز وجل - عنها: ﴿ ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾ [المؤمنون: 14].
وفي الحقيقة أنها ست مراحل بالضبط كمراحل خلق السموات والأرض.
خلق الإنسان في ضوء السنة النبوية:
أكتفي هنا بذكر الحديث المتفق عليه عن أبي عبدالرحمن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: (حدَّثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أحدَكم يُجمَع خلقُه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقةً مِثلَ ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يُرسَل إليه الملَك، فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: يكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أم سعيد))[4].
يقول ابن رجب الحنبلي - رحمه الله -:
(فهذا الحديث يدل على أنه يتقلب في مائة وعشرين يومًا في ثلاثة أطوار، في كل أربعين يومًا منها يكون في طور)[5].
قلت: تكلم الحديث عن مراحل ما قبل نفخ الروح، وهي ثلاث مراحل؛ حيث يترتَّب على ذلك أحكام ليس مجال الحديث عنها الآن، ولم يذكر في الحديث بقية المراحل حتى تتم الولادة، فلا تعارض بين ما جاء في الحديث وما جاء في الآيات السابقة.
ثانيًا: مرحلة ما بعد الولادة:
وأطوار ما بعد الولادة قد بيَّنها الله تعالى في مواضع؛ منها قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا ﴾ [الحج: 5]، ويمكن تقسيم هذه الأطوار إلى ثلاثة:
الطور الأول: طور الطفولة، وتبدأ من بعد الولادة، ثم الرضاعة، وتستمر عامين؛ قال تعالى: ﴿ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ﴾ [البقرة: 233]، ثم يلي ذلك الطفولة، وفيها: الفطام، وتعلم الإطعام والمشي والكلام، وكل ذلك إنما يكون بتدريج، وقد سبق ذكر المعنى اللغوي للتدرج، وهو: (درج الطفل؛ أي: أخذ في الحركة ومشى قليلاً أول ما يمشي).
الطور الثاني: المراهقة وبلوغ الأَشُدِّ، وهي مرحلة الشباب؛ حيث القوة والفتوة، قال تعالى: ﴿ ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ﴾ [الحج: 5]، وكمالها وتمامها أربعون سنة، قال تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ ﴾ [الأحقاف: 15].
الطور الثالث: وهي مرحلة ما بعد الأربعين حتى يصل إلى أرذل العمر إذا شاء الله، أو قضى نحبه قبل ذلك، قال تعالى: ﴿ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ ﴾ [الحج: 5]، وفي هذه المرحلة تبدأ أعراضُ الوهن والضعف، ويشيب الشعر، وينكس في الخلق، قال تعالى: ﴿ وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ ﴾ [يس: 68].
وهذه الأطوار بيَّنها الله تعالى في موضع آخر في قوله تعالى: ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ ﴾ [الروم: 54].
وهكذا تتضح لنا سنة التدرج في خلق الإنسان، فآدم عليه السلام خلقه الله تعالى من تراب، ثم تحوَّل التراب إلى طين، ثم تحول الطين إلى حمأ مسنون، ثم تحول الحمأ المسنون إلى صلصال، ثم التسوية، ثم النفخ، فصار كما أراد الله تعالى، وكذلك الذرية، فقد مر خلق الإنسان بمراحل متدرجة بدأت بالنطفة، ثم العلقة، ثم المضغة، وهكذا كما سبق بيانه.
وجدير بالذكر أن هذا الإنسان الذي خُلِق من تراب حينما يموت، فإن جسده يتحلل، ويتحول إلى مادته الأولى، كما قال تعالى: ﴿ مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى ﴾ [طه: 55].
وهذا الذي ذكرته من أطوار خلق الإنسان على مراحل، إنما هو من تربية الله تعالى للعبد، فهو سبحانه ربُّ العالمين، وتربيته لعباده لم تحدث فجأة، ولا في لحظة واحدة، وإنما كانت بالتدريج.
ويذكر الإمام الرازي في تفسيره ما يلي:
(وجوه تربية الله للعبد كثيرة غير متناهية، ونحن نذكر منها أمثلة:
المثال الأول: لَمَّا وقعت النطفة من صلب الأب إلى رحم الأم، فانظر كيف أنها صارت علقة أولاً، ثم مضغة ثانيًا، ثم تولدت منها أعضاء مختلفة مثل العظم... فسبحان مَن أسمع بعظم، وبصَّر بشحم، وأنطق بلحم... وكل ذلك يدل على تربية الله تعالى للعبد)[6].
لطيفة:
وكما رأينا في خلق الله تعالى للسموات والأرض، أنه - سبحانه وتعالى - خلق الأرض أولاً؛ لأنها كالأساس للبنيان، فكذلك في خلق الله تعالى للإنسان أنه خلق العظم أولاً، ثم اللحم ثانيًا، قال تعالى: ﴿ فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ﴾ [المؤمنون: 14]، فكان خلق العظم (الهيكل العظمي) كالأساس الذي بني عليه الإنسان، وهذا أيضًا تدرج.
الحكمة من خلق الإنسان بالتدريج:
الحكمة من خلق آدم عليه السلام من تراب، ثم من طين، ثم من حمأ مسنون، ثم من صلصال كالفخار:
يوضح لنا الدكتور محمد محمود حجازي[7] هذه الحكمة فيقول:
(ولعل ذلك إشارة إلى ما ينطوي عليه الإنسان من غرائز وميول، فهو مخلوق حقًّا من تراب، ولكن هذا التراب معه ماء؛ فصار طينًا لازبًا، ثم صار حمأً مسنونًا أسْودَ مُنتنًا، ثم صار صلصالاً كالفخار.
تلك إشارات كلها لما فينا من غرائز متأصِّلة لزجة كالطين اللازب، وهذه الغرائز عند البعض تشتد وتقوى حتى تشبه الحمأ المسنون، وهو الطين الأسود المنتن، ثم نحن مع مغريات الحياة من مال وجاه ونساء كالصلصال والفخار، سهل الانكسار، والله يهدي مَن يشاء إلى صراط مستقيم، وأُمِرت الملائكة بالسجود تكريمًا وتعظيمًا، لحكمة الله في خلقنا وبديع صنعه فينا)[8].
ويعلق فضيلته على آيات خلق الإنسان - خصوصًا المكية - ويوضح أنها كانت على مرحلتين:
المرحلة الأولى:
تهتم بخلق الإنسان وتطوُّره ونشأته مِن منيٍّ يُمنَى، ثم كان علقة فخلق فسوَّى، ثم كان منه الذكر والأنثى... ثم هو بعد ذلك يخرج من بطن أمه في وقت معلوم، ويسمع قبل أن يرى، ثم يرى بعد أيام قليلات، ثم يدرك ويحس بعد أيام طويلات، فهل هذا الانتقال من حال إلى حال، ومن طبيعة إلى طبيعة أخرى مباينة، فطبيعة الدم غير طبيعة الماء (المني)، وطبيعة اللحم غير طبيعة العظم... هل هذا كله يتم صدفة أو بطبيعة عمياء؟! إنها آيات تدل على ربوبيته سبحانه وألوهيته الكاملة.
المرحلة الثانية:
تهتم بما يترتب على الخلق بمراحله الأولى، وما ينشأ عنه من أطوار وأحوال، هذه الأطوار وتلك الأحوال المختلفة المتباينة مع اتحاد الأصل والمنشأ، ألا تدل على وجود الله القادر الحكيم العليم، وأنه هو الله وحده لا شريك له...؟![9].
ثم ينتقل فضيلته إلى بيان أن القرآن المدني لم يُهمِل الحديثَ عن خلق الإنسان، وأن الهدف من خلق الإنسان هو توحيد الله وعبادته.
قلت: ولعل من تلك الحكم أن يعرف الإنسان أصله، وممَّ خُلِقَ؟ كي لا يكفر بخالقه، ويعترف له بالعبودية، كما قال تعالى: ﴿ قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ﴾ [عبس: 17 - 20].
وكيلا يغترَّ بقوته وقدرته، قال تعالى: ﴿ أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ * يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا * أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ * أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ﴾ [البلد: 5 - 10].
وكي يستحيي من الله تعالى حق الحياء، قال تعالى: ﴿ مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا ﴾ [نوح: 13، 14].
وكي يستقر في ضميره أنه مخلوق من الأرض، وإلى الأرض يعود، قال تعالى: ﴿ مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى ﴾ [طه: 55].
ولكي يرتب أمور حياته وسعيه وترتيباته أنه سائر إلى نهاية حتمية، لا مفر منها، وهي الموت، كما قال تعالى في آيات سورة المؤمنون التي بيَّن الله تعالى فيها مراحل خلق الإنسان: ﴿ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ ﴾ [المؤمنون: 15، 16]؛ فلا مفر من الموت، ولا بد من الحساب!
من كتاب: "خصيصة التدرج في الدعوة إلى الله (فقه التدرج )"
[1] مفاتيح الغيب، جزء 9 ص 414.
[2] مفاتيح الغيب، جزء 13 ص 362.
[3] دراسة للدكتور شريف عبدالكريم، رسالة من مهاجر، أخبار اليوم ص 49 - إدارة الكتب والمكتبات.
[4] صحيح مسلم بشرح النووي، طبعة دار الشعب، الجزء الخامس ص 496.
[5] جامع العلوم والحكم، دار التوزيع والنشر الإسلامية 1998م ص 60.
[6] مفاتيح الغيب، جزء 1 ص 284.
[7] مؤلف كتاب التفسير الواضح.
[8] الوحدة الموضوعية في القرآن الكريم، دار الكتب الحديثة ص 144، طبعة أولى 1970.
[9] المرجع السابق ص 148.