تعتبر العمارة الإسلامية من أهم المجالات التي تفوّق فيها المسلمون على مر العصور, وتعتبر مدينة سمرقند من المدن الإسلامية التي تتميز بعمارتها الإسلامية المتميزة، وبطابعها الخاص. ويرجع ظهور سمرقند إلى القرن الخامس قبل الميلاد، وكان اسمها أفراسياب, وهو اسم لملك من ملوك السوغدان, وعرفت عند الإغريق باسم "قراقندا". العمارة في سمرقند تنسب مخطوطة تعود إلى العصر المقدوني أن سمرقند كانت أيام الإسكندر بلدة كبيرة ذات تحصينات وقلعة وسور دفاعي يمتد حوالي 14 كيلومترًا، وتملك صناعة يدوية، وتجارة مزدهرة، وحياة ثقافية, وقد عثر علماء الآثار السوفيت في تلال على بقايا قلعة وسور بامتداد 80 مترًا، وارتفاع 13 مترًا، وفي أسفله بقايا قصور وأسواق وشوارع. وسمرقند تقع على مثلث من الأرض فوق تلة في منطقة مهملة ما زال اسمها أفراسياب، تشكل اليوم ضواحي المدينة؛ ولأن سمرقند اعتمدت في حياتها على نهر زرفشان الذي يجمع مياهه من الجبال السماوية، فقد استقطبت دائمًا قبائل البدو التي كانت تأتي للغزو قادمة إليها من الصحراء المجاورة والسهول الشمالية. وفي تلال أفراسياب اكتشف الأثريون بقايا مسجد كبير، يظن أن مجموعة من المدافعين عن المدينة اعتصموا فيه لمواجهة جنكيز خان وجيوشه، كما أنهم وجدوا بقايا بريد وسلاح وجدران محروقة عليها كتابة محفورة بالسكين لجندي جريح. سمرقند التيمورية دخل القائد تيمورلنك مدينة سمرقند في عام 765هـ بعد الانقلاب على صهره السلطان حسين، مما يسر لهذا القائد الدخول لمدينة سمرقند، واتخذها حاضرة لدولته، واتسعت فتوحاته حتى شملت حدود الصين شرقًا، وبعض الهند وآسيا الوسطى وإيران والعراق. وكان اللون الأزرق هو اللون المفضل لتيمورلنك، الذي أصبح يعرف بلون الإسلام؛ مما جعل المدينة مغطاة بالبلاط القيشاني ذي اللون الأزرق بكل ما فيه من خيالات وتفرعات مع تداخلات اللون الأبيض والقليل من الأخضر. تطوير المدينة: في القرن الرابع عشر كان تيمورلنك قد افتتح كل آسيا، من سور الصين العظيم حتى البحر المتوسط، واختار سمرقند لتكون عاصمة جديدة لفتوحاته، قرب مكان ولادته في كِشْ. ومن شدة حرصه علي تجميلها وتطويرها جمع أهم صنّاع زمانه ليجدد بناء المدينة، فبنى سمرقند الجديدة جنوب سمرقند القديمة، فجاء بالمعماريين والبنائين والنحاتين والنجارين والرسامين والخطاطين من كل بلد افتتحه، وجاء بعلماء الرياضيات -إذ كانت الرياضيات هي أساس فن العمارة في القرون الوسطى- من فارس والهند وتركستان والشام وبلاد الرافدين. واستطاعت هذه المواهب والكفاءات المتعددة التي صبت في بحيرة سمرقند أن تعكس في بنائها الجديد الحضارات الأربع الأساسية لبلدانها، فتقيم نهضة عمرانية لا مثيل لها في آسيا الوسطى، وإذا بسمرقند الجديدة لا هي عربية ولا فارسية ولا تركية ولا هندية، بل هي الأربع معًا في تمازج شكَّل مفهوم حضارة التتر. وبنى تيمورلنك سورًا عظيمًا حول سمرقند الجديدة، طوله سبعة كيلومترات، وله ستة أبواب، وبنى قلعة غربي المدينة حفر حولها قنوات مياه عميقة، وداخل القلعة كان "القصر الأزرق" (كوك ساراي)، الذي كان مقر تيمورلنك الأساسي، ومركز المالية. وإلى جانبه، كانت مكاتب الحكومة ومخازن السلاح ومصانعه، وكان هناك أكثر من ألف عامل يعملون في صناعة السلاح وحدها: رماح وسيوف ودروع وسهام وكل نوع من أنواع السلاح التي عرفتها حروب القرون الوسطى، لتشكل ترسانة تمد حملات تيمورلنك وفتوحاته. الاهتمام بالعاصمة: اهتم تيمورلنك بعاصمته الجديدة، وبلغ من شدة اهتمامه أنه كان يراقب شخصيًّا أعمال البناء بين الحملة والحملة، جالبًا إليها عند عودته من كل فتح من فتوحاته كنوز المدن الأخرى التي يكون قد سباها، ومعها حرفيوها: عمال البناء والنحت من أذربيجان ودلهي، عمال البلاط والموزاييك من شيراز وأصفهان، عمال السيراميك والحرير من دمشق، عمال الفضة والنحاس من تركيا. شهادات على عمارة سمرقند اشتهرت مدينة سمرقند بالنهضة المعمارية التي ما لبثت أن ترامت إلى آذان البلاد من حولها، فكانوا يقومون بالرحلات لمشاهدة جمال وروعة أبنية هذه المدينة، مما جعل هؤلاء القادمين سواء للزيارات الرسمية أو الترفيهية يقدمون للتاريخ شهاداتهم على فن العمارة بسمرقند، ومن هؤلاء الشاعر الإنجليزي"فليكر"،الذي أطلق عليها اسم "سمرقند السعيدة". أما "دوكاليفو" -مبعوث هنري الثالث ملك قشتالة الإسباني الذي زار تيمورلنك في أواخر عهده، والذي يعود له الفضل في نقل أول صورة عن سمرقند وعن تيمورلنك إلى الغرب- فلم يخفِ انبهاره بما رآه، فهو يقول عند لقائه الأول بتيمورلنك: "لقد كان جالسًا على تخت، ومتكئًا على وسادات من الحرير، وقربه نافورة مياه يسبح في بركتها تفاح أحمر، وكان يلبس عباءة من الحرير ذات لون واحد، وقلنسوة طويلة فوقها تاج مرصع بالزمرد واللؤلؤ والأحجار الكريمة". وكان ذلك اللقاء وسط حديقة شاسعة غناء، أقيمت على كل طرف من أطرافها الأربعة خيمة كبيرة من الحرير، كان تيمورلنك ورجاله ينصبونها في حدائق سمرقند، ويتنقلون بها من حديقة إلى حديقة كل عدة أيام حتى لا يفقدوا بداوتهم، ومن هذه الحدائق: باغي ديغوشا أي (حديقة فرحة القلب)، وباغي شمال أي (حديقة الشمال). فمعماريو سمرقند لم يكتفوا ببناء القصور، بل أقاموا سلسلة من الحدائق، وصفها شرف الدين علي يزدي -أحد زوار تيمورلنك- فقال: "أرضها من الحجارة الملوَّنة، مطلية بخشب الأبنوس والعاج، وجدرانها مزينة بخزف من قاشان، بناها مهندس من دمشق، وزيَّنها خزاف من العراق". من أشهر معالم مدينة سمرقند:أولاً- الأسوار: كان يحيط بمدينة سمرقند سور عظيم تخرج منه أربعة أبواب رئيسية: 1- باب الصين: وهو في شرق المدينة، وقد أقيم تخليدًا لذكر الصلات القديمة مع الصين؛ بسبب تجارة الحرير. 2- باب بخارى: وهو في شمال المدينة، وقد وجدت كتابة بالعربية اليمنية الحميرية عند باب بخارى، وهذا نصها: "بين المدينة وبين صنعاء ألف فرسخ، وبين بغداد وبين إفريقية ألف فرسخ، وبين سجستان وبين البحر مائتا فرسخ، ومن سمرقند إلى زامين سبعة عشر فرسخًا". 3- باب النوبهار: ويقع في جهة الغرب، ويشير هذا الاسم إلى معبد قد يكون بوذيًّا. 4- الباب الكبير أو باب كش: ويقع في الناحية الجنوبية، ويرتبط باسم بلدة كش موطن تيمور الأصلي. ثانيًا- المساجد: من أهم معالم سمرقند الأثرية التي تشهد على تاريخ المسلمين في سمرقند المساجد الكثيرة التي حول بعضها إلى متحف لتاريخ الفن والحضارة في أوزبكستان، ومن هذه المساجد: - المسجد الجامع: الذي شيد في أواخر القرن الرابع عشر في شرق ميدان ريكستان، ويطلق عليه اسم مسجد "بيبي هانم"، زوجة تيمورلنك الكبرى، ويذكر أن تيمورلنك هو الذي وضع أسس المسجد في أعقاب حملته الناجحة على الهند. - وفي الجانبين الشمالي والجنوبي من المسجد يقوم مسجدان صغيران، لكل منهما قبة تواجه الأخرى. ولقد اقترن بناء المساجد في سمرقند بالأضرحة، فهي تمثل سمة مميزة للمدينة، إلا أن أبرز ما فيها هو الناحية الجمالية التي تتمثل في القباب المزخرفة، وهي نموذج فريد من الفن الإسلامي المشرقي. ثالثًا- منشآت شاه زنده: وهي تتضمن الكثير من المؤسسات والآثار الإسلامية منها: 1- ضريح قثم بن العباس بن عبد المطلب ابن عم النبي محمد ، الذي قيل إنه استشهد في فتح سمرقند عام 57هـ، وأقيم له ضريح على غاية من الروعة والجمال، غير أن تاريخ البناء الموجود حاليًا يعود لعام 753هـ، وهو قد يكون تاريخ تجديد الضريح، ويضم الضريح ثلاث قاعات، ومسجد، وغرفة للعبادة والاعتكاف. ولقد تحول "شاه زنده" بعد ذلك إلى مجموعة من الأضرحة والمنشآت الدينية، وكان ذلك كفيلاً بأن يوفر للأضرحة المقامة حول ضريح قثم وللمساجد أسبابًا عديدة للعناية بها، والإنفاق الكثير عليها، جعل منها قطعًا فنية رائعة، واجتمع لأجلها أمهر الفنانين والبنائين في عهد تيمورلنك وبعده، حتى أصبحت مجموعة "شاه زنده" من أهم التراث المعماري الفريد في آسيا. 2- ومن المنشآت المميزة في منطقة "شاه زنده" مجموعة كاملة من المباني أنشئت بأمر من الأميرة "ترمان آقا" زوجة تيمورلنك، وتضم مسجدًا (خانقاه)، وضريح "ترمان آقا"، الذي لا يقل روعة وجمالاً عن أي ضريح آخر في "شاه زنده"، بل ويزيد عليها جميعًا ببوابة مكسوة بالفسيفساء ليس كمثلها بوابة أخرى, كما تضم هذه المجموعة حجرة متوسطة للخدمة. رابعًا- الأضرحة: 1- ضريح الإمام البخاري: ويقع هذا الضريح في ضاحية سمرقند عند مشارف قرية "باي أريق" حيث دفن هناك بعد وفاته في القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي عن اثنين وستين سنة، وذلك بعد هجرته من بخارى، ودفن إلى جواره عدد من علماء بخارى، وقد أقيم بالقرب من ضريحه قبل سنوات قليلة مسجد حديث في أواخر السبعينيات من هذا القرن. 2- قبر تيمورلنك: ويتميز هذا الضريح بقبته الباهرة التي تعلو الضريح، وهي قبة فيروزية مضلعة ومكسوة بكم هائل من زخارف الفسيفساء، ويسمى هذا الضريح باسم "كور أمير"، أو مدفن خلفاء الأمير تيمور، وكور أمير يطلق أيضًا على مجموعة من المباني المرتبطة باسم حفيد تيمور المعروف باسم محمد سلطان، وتضم هذه المجموعة مدرسة خانقاه، والضريح الملحق بالمسجد، ومبان عديدة تطل على مئذنة من كل ركن فيها، كما يتميز البناء بوجود حجر المرمر الرمادي السداسي الشكل وهو حجر العرش الذي لا يزال يطلق عليه الاسم التقليدي له "كوك طاش". 3- ضريح"طوغلوتكين": وهو لإحدى الأميرات المغوليات، وإلى جواره ضريح آخر عرف باسم "أمير زاده"، وبجانبه مصلى صغير اسمه "زيارة خانه" غطيت جدرانه بنقوش كثيفة تلمع رغم الظلام النسبي الذي يسود المكان. وهناك ضريح مهم بمنزلة تحفة معمارية وفنية هو ضريح الأميرة شيوين بيكه آقا، شقيقة تيمورلنك، كما يوجد ضريح آخر لشقيقة أخرى لتيمورلنك هي الأميرة تركان آقا. كما توجد أيضًا مجموعة من الأضرحة تعود إلى القرن الرابع عشر الميلادي، عندما اختار تيمورلنك سمرقند عاصمة له. خامسًا- الأسواق: اشتهرت سمرقند عبر التاريخ بالعديد من المنتجات الوطنية مثل المنسوجات والسجاد، إلا أن أشهر ما عرفت به سمرقند هو: "الكاغد (الورق) السمرقندي"، وقد نقلت سر صناعته عن الصين بعد معركة طلاس الشهيرة التي انتقل على أثرها أسرى من الصين عملوا على نشر صناعة الورق في بلاد ما وراء النهر، ومنها سمرقند. ولهذا الورق شهرة خاصة تميزت بها سمرقند عبر التاريخ, ومع مضي الزمن تقدمت هذه الصناعة باستخدام الكتان والقطن في صناعة الورق الأبيض الناعم الجميل، الذي وجد سوقًا رائجة في مختلف أنحاء العالم الإسلامي، وبخاصة في عاصمة الدولة العباسية بغداد، فالورق صفحة من صفحات الفخر للإسلام والمسلمين، فالورق كان معروفًا في جنوب شرق آسيا، إلا أن العالم لم يعرفه سوى بعد أن تعلمه المسلمون، وانتقل من بلادهم إلى العالم كله. وقد ازدهرت هذه الصناعة في سمرقند أيما ازدهار، ثم بدأ الصراع بين الورق المصري الذي كان يطلق عليه القراطيس أو القباطية، وبين ورق سمرقند الذي كان يطلق عليه الكاغد أو الرقوق الرومية، ولكن الكاغد السمرقندي تفوق على كل هذه الأنواع، ولاقى رواجًا عظيمًا حتى عطلت قراطيس مصر والجلود التي كان الأوائل يكتبون عليها. المكانة العلمية لمدينة سمرقند تميزت سمرقند على مر العصور بالعديد من المدارس التي تدل على مدى اهتمام أهلها بالعلم، وعلى الحالة العلمية التي تميزت بها هذه المدينة. المدارس: ومن أهم مدارس سمرقند التاريخية في قلب ميدان ريكستان ثلاث مدارس، هي: 1- مدرسة أولغ بك: وتضم هذه المدرسة ( 50 ) غرفة للدراسة والإعاشة، ويدرس بها حوالي مائة طالب، ثم ازداد العدد إلى أكثر من ذلك، وكان المبنى يشتمل على طابقين وأربع قباب عالية فوق قاعات الدراسة الركنية (درس خانة)، وكان أولغ بك قد تولى بنفسه التدريس في هذه المدرسة. 2- مدرسة شيرادار: كانت في الأساس زاوية للصوفيين ومسجدًا، ثم أقام حاكم سمرقند في المكان ذاته هذه المدرسة العظيمة المواجهة لمدرسة أولغ بك، ولكن الناظر إلى واجهتها لا يظنها مدرسة؛ نظرًا للفخامة والعظمة والروعة المعمارية التي تتميز بها، لا سيما بابها وقبابها والمنارتان اللتان انتصبتا بشموخ على مداخلها. 3- مدرسة طلاكاري: يعود تاريخها إلى عام 1056هـ/1646م، وهي المدرسة الذهبية ويلاصقها المسجد، وهي تتميز بفن معماري جذاب، وبثروة في الألوان والزخارف. وقد توقفت هذه المدارس الدينية والعلمية عن رسالتها الإسلامية بعد أن تحولت منذ عام 1336هـ/1918م إلى مبان أثرية سياحية، وذلك بعد الاجتياح الروسي الشيوعي، والذي كان يريد أن يمحو كل ما هو ذو صلة بالدين، محاولة منه لسلخ أهل هذه البلاد عن هويتهم الإسلامية. العلماء: اشتهرت مدينة سمرقند بوفرة العلماء المميزين بها، وهذا هو الحال في كل أوزبكستان التي خرج منها أشهر الفقهاء والأطباء الذين انتشروا في ربوع الأرض ينشرون صحيح العلم، ومن أشهر علماء سمرقند: - الفقيه أبو منصور الماتريدي: وهو نسبة إلى حي ماتريد، أو ماتريب، أحد أحياء سمرقند، وكان له أثر حاسم في تطور الفقه السني بالمشرق. - الفقيه محمد بن عدي بن الفضل أبو صالح السمرقندي: نزيل مصر، سمع بدمشق أبا الحسن الميداني، وجماعة غيره، وروى عنه أبو الربيع سليمان بن داود بن أبي حفص الجبلي، وجماعة غيره. - الفقيه أحمد بن عمر أبو بكر السمرقندي: سكن بدمشق، وقرأ القرآن وأقرأه، وكان يكتب المصاحف من حفظه. - محمد بن مسعود السمرقندي المعروف بالعياشي صاحب التفسير المشهور، وكان من المحدثين والأطباء والنجوميين. - ومن علمائها أيضًا علاء الدين السمرقندي، ونجيب الدين السمرقندي وكان طبيبًا معاصرًا لفخر الدين الرازي، وقتل بهراة لما دخلها التتار، ومنهم شمس الدين السمرقندي العالم والمنطقي والفلكي والأديب. - ومن علمائها المتأخرين أبو القاسم الليثي السمرقندي، وكذلك الفلكي المشهور قاضي زاده الرومي، أستاذ أولغ بك، الذي كان أحد أبرز الفلكيين في العالم خلال العصور الوسطى. المصادر: 1- كتاب الجانب الآخر للتاريخ، الحلقة (5)، تأليف: رياض نجيب الريس. 2- د. محمود سيد قمر: فصول في تاريخ الحضارة الإسلامية في آسيا الوسطى. 3- مركز الإشراف التربوي بغرب مكة. 4- شبكة الفلق الثقافية.