منهج الإسلام في تقويم المعوج عبدالغني أحمد ناجي من المُسلَّم به أن الخطأ من طبيعة الإنسان؛ فـ ((كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون))؛ كما في الحديث الشريف. والشاعر العربي القديم يقول: ولستَ بمُستبقٍ أخًا لا تَلُمُّه على شعَثٍ، أيُّ الرجال المهذَّب؟ ومن ثَمَّ فلا حرجَ من وقوع الخطأ من الإنسان في نَظرِ الدين أو العُرْف، ولكن الحَرَج في الاستمرار على الخطأ من الإنسان حتى يغدو عادة مُتأصِّلة، أو ديدنًا مألوفًا، ففي هذين انحرافُ الشخص، وتقويض المجتمع؛ ولهذا نجد الدينَ الحنيف لا يألو جهدًا في رأب الصَّدع، وإصلاح الخطأ، وتقويم المعوجِّ بصُنوف عدة من العلاج والتقويم. وإن موازنةً سريعةً بين تقويم الإسلام، وتقويم غيره للمعوجِّ؛ لتُثبِت بجلاء نجاحَ منهجِ الإسلام في الوصول إلى الهدف التقويمي من أيسر السُّبل، وبأرجح الوسائل؛ فالإسلام يعتبر المخطئ مريضًا، ومن ثَمَّ فهو يُعالِجه بجرعات متتابعة ومُتدرِّجة تدريجًا تصاعديًّا، ولقد ثبت بالتجريب نجاحُ ذلك النهج، إذ لو قلَبْنا الوضع، وقمنا مُتدرِّجين تدريجًا تنازليًّا لما حصل العلاج المنشود؛ فالإنسان مجبول على العِناد، وصدْمه بالعلاج المؤلم أو العقاب الشديد يُوصِد أمامه أبوابَ الأنانية والإصلاح، ويدفعه دفعًا إلى التمادي في العِصيان، ومن ثَمَّ نجد الإسلام لا يفتأ يُكرِّر في القرآن الكريم الآيات التي تُنبِّه إلى فتْح أبواب التوبة والتبشير بقَبُول التائبين: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ ﴾ [الزمر: 53، 54]، ويقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله يَبسُط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تَطلُع الشمسُ من مغربها))، وفتح باب التوبة بهذه الطريقة الرحيمة منهجٌ تقويمي وتربوي ممتاز، فالذي يجد الإغضاء عن أخطائه الأَولى أنه سيَخجل من نفسه، ويتوب إلى ربه، ويثوب إلى رُشده؛ ليَحظى بالغفران والرِّضوان، وليس صحيحًا أن يقول أحد معترضًا: أن قَبُول التوبة يُشجِّع على استمراء الذنب؛ لأن الإسلام في حَصافته العلاجية لا يقبل التوبة من المتلاعبين المستمرئين المعاصي بحُجة قَبُول التوبات، يتجلى هذه الحسم العنيف في قول الله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا ﴾ [النساء: 137]. والإسلام حينما يُرشِد المربِّين والمصلحين إلى أنجع وسائل التقويم - يؤكِّد هذا التدرُّج المستمر: النُّصح والإرشاد وفتح باب التوبة، ثم الإيلام النفسي، ثم الإيلام الجسمي، ويجعل مزاولتَها بهذا الترتيب ضرورة مفضية إلى التقويم المنشود، والأمثلة التطبيقية لها من واقع المسلمين كفيلةٌ بدعمها؛ حتى يتحقق الإيمانُ بجديَّتها، والبهجة بثمارها، خذ مثلاً: تقويم الزوجة الناشز، واستَمِع إلى القرآن الكريم وهو يُقرِّر هذا المبدأ التقويمي لإصلاحها؛ يقول الله - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا ﴾ [النساء: 34]، فلقد تجلَّت في تلك الآية الكريمة على قِصَرها المراحل الثلاث لمنهج الإسلام في التقويم: عِظة أولاً، ثم هجر لتحقيق الإيلام النفسي، ثم ضرب في غير عُنف؛ لتحقيق الإيلام الجسمي، وبعد تَحقُّق ثمرة ذلك الإصلاح المتجلية في الطاعة والانصياع، والسير على الجادة السويَّة، بعد هذا يمنع الإسلام التمادي في مزاولة العقاب؛ خَشية الانتكاس والارتكاس؛ ﴿فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا﴾. استعمال المراحل: ولا يَصِح أن نفهم أن الإسلام يُرشِد إلى استعمال المراحل الثلاث، حتى ولو حصل الإصلاح بالأولى أو الثانية، فذلك مُخالِف لمنطق العقل السليم، فما دامت الغاية المبتغاة الإصلاح والتقويم، وقد حصلا بوسيلة أو وسيلتين - فلا يجوز عقلاً استعمال ما يلي من وسائل أو مراحل، وفي قصة الثلاثة الذين تخلَّفوا عن الخروج إلى الجهاد في سبيل الله في إحدى الغزوات ما يَدعَم ذلك، فلقد توالت الآيات الداعية إلى الجهاد في كَثرةٍ يَصعُب حصرها، بين مرغِّبة ومخوِّفة، وكان ذلك يُمثِّل المرحلة الأولى: مرحلة النضج والإرشاد، ثم جاء الإيلام النفسي الممثَّل في توجيه المسلمين إلى مقاطعة هؤلاء المتخلِّفين عن الجهاد في سبيل الله، فانصاع المسلمون للتوجيه، وزاودوا أو نفَّذوا المقاطعةَ، وكان التنفيذ من الجميع، حتى من أقرب الناس إلى هؤلاء الثلاثة المتخلِّفين، وانتظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فترة بعد استعمال هذه المرحلة الثانية، ولما وجدها قد حقَّقتِ النجاحَ، استغنى عما بعدها من دواء؛ يقول القرآن الكريم في ذلك: ﴿ وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [التوبة: 118]، هذا إذا كان الإيلام النفسي بعد النُّصح لا يُحدِثُ عقدًا نفسيَّة مقوِّضة لاستواء الشخصيَّة، أما إذا كان ذلك الإيلام يُحدِث تلك العُقد، فإننا نَلمَس حصافةَ الإسلام ورُشْد تعاليمِه في تخطِّي مرحلة الإيلام النفسي، وجعل التقويم حينئذ ذا مرحلتين فحسب: النُّصح، ثم الإيلام الجسمي، ويكون ذلك في تقويم الأطفال؛ إذ إن الإيلام النفسي بالنسبة لهم يَغرِس في نفوسهم من العُقدِ ما لا تُحمَد عقباه، ومن ثم تجدِ الإسلام وهو يُرشِد الآباء إلى تعويد أبنائهم الصلاة، يُوجِّه إلى مرحلتين فحسب، هما: الأمر، ثم الضرب الخفيف؛ يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مروا أولادَكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرِّقوا بينهم في المضاجع))؛ رواه أحمد وأبو داود. وبعد، فهذا هو نهج الإسلام القويم في التقويم، وحريٌّ بمن يتصدُّون للتربية والتهذيب - مدرسين أو غيرهم - أن يَنهجوا هذا النهجَ السليم؛ حتى يتحقَّق ما نصّبوا إليه نفوسهم من إصلاح ونجاح؛ ﴿ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى ﴾ [البقرة: 120].