لم ينل منها الزمن ولا الصدمات ولا الكوارث ولا أي شيء··· كأنها ولدت لتكون هي لا غيرها··· هي فقط من تستحق اسم المرأة الفولاذية وكذب من سمى سواها بالاسم ذاته··· وحدها دون غيرها من يليق به لقب المرأة الحديدية وليس لسواها ذا اللقب··· جاوزت المئة سنة ولم ينل الزمن بكل نوائبه وحوادثه من صمودها شيئا··· تلك الكرة التي تكومت في الركن الأيمن من جنب البيت، تخالها شبحاً من الزمن الماضي··· تحفة ابقى الزمن عليها لتبصم على أرضية المشاهير بيديها المرتعشتين بصمات النضال والصبر والصمود والعطاء··· حين سألها حفيد من أحفادها يوما عن أخدودين حُفرا بعمق على خديها المتهدلتين، فأجابت بفصاحة العلماء الحكماء: هذه دجلة وهذا الفرات يا بني· وقبل ان يفتح الصبي فاه بسؤال استدراكي حسب معلوماته الجغرافية، كانت هذه المؤرخة الحكيمة تسبقه بالإجابة: تبحث عن نهر النيل يا ولدي؟ فغر الصبي فاه متعجبا لنباهة هذه العجوز التي لم يصوروا مثلها في الرسوم المتلفزة ولا في الكريكاتورات ولا في الأحاديث والحكايات إلا عجوزا شمطاء· تتقن السحر وتتفنن في نسج الحكايات الخيالية الملفقة··· لم يصوروا مثلها الا بصورة العجوز الشريرة التي تتقن المكائد وتتفنن في وضع الشباك والمصائد··· لكن هذه العجوز لا تشبه تلكم العجائز··· هذا هو نهر النيل يا ولدي··· وأشارت بأصبع معرورقة ومنثنية، تكاد لا تصل الى مستوى صفحة وجهها لولا الجهد الكبير الذي تبذله لتصل إلى نهر النيل المحفور بعمق بين عينيها··· وكيف لا تعرف هذه الأنهار وقد ارتوت من مياهها··· ارتوت هي من نهر دجلة والفرات وارتوى رفيق دربها من النيل العظيم، فكان الأولاد والأحفاد خلاصة هذه الأنهر··· تجلت لها هذه الصورة وهي بعد صبية عندما خطبها >أحمد المصري< ابن رفيق والدها في النضال والمقاومة والجهاد··· تجلت لها هذه الأنهر الرقراقة الجارية، تمتزج وتختلط ليس بينها برازخ ولا حواجز··· تصب في معين واحد··· ولأنها بذرة طيبة زرعت في أرض طيبة فسريعا ما فهمت أبعاد هذا اللقاء وأهمية هذا الزواج فوافقت من دون تردد··· ومن يومها وهي تعمل على أن تجري تلكم الأنهر الى مصب واحد··· هذه العجوز ليست كمثل باقي العجائز··· هكذا ظل الصبي يردد لبرهة حين أخذه تفكيره إلى حكايا ما قبل النوم التي كانت تحكيها هذه الكتلة المكورة المنزوية في ذلك الركن القصبي··· لم يكن أبطال تلك الحكايا سوى أبيها وجدها وأبنائها وأحفادها··· تاريخ يستحق التسجيل والوقوف··· ركض الصبي إلى حجرة جدته وراح يشتم رائحة التاريخ· وكم طار بجناح خياله وهو أمام بعض الحاجات الخاصة لأبطال تلكم الحكايا >بعض القطع النحاسية القديمة، نعل جلدي، جزء من عباءة الجد الأكبر تتضوع بريح الكافور الذي وضعته الجدة عليها ليقيها العثة ويحفظها من التلف، مصحف شريف مخطوط بخط يد الجد الأكبر، خنجر فضي صغير، بعض الأدوات المنزلية العتيقة وغيرها من التحف< وكأنه يحيي كل تلك العصور والفترات··· بل خال نفسه جزءا منها··· فيلتحف ببقية لحاف جده وينتعل ذاك النعل ويعلق الخنجر ويصيح الله اكبر هيا إلى الجهاد··· ربما ظن نفسه أحد الفرسان السابقين يخوض معارك ضارية يطيح فيها بجميع الأعداء ليحقق أمنية جدته العزيزة قبل أن توافيها المنية: >اللهم أطل عمري حتى أرى نتاج صبري وفرحتي بالوحدة والنصر على الأعداء< هكذا كانت تردد الحكيمة دائماً بتلعثم في نطق بعض الحروف لفقدها جل أسنانها··· فتكون مثار ضحك بريء من الأحفاد الصغار··· تفحص الصبي وجه جدته العجوز بكل وقار واحترام كأنه يضع كفه على خارطة العالم العربي أجمع ··· فيذهب به خياله مرة ثانية ليحدد موقع جميع الدول العربية فيصيح: هنا مصر وهنا العراق وهذه الجزيرة العربية وهذه حدودها· انتفضت الجدة مذعورة وصاحت بصوت متهدج: عن أي حدود تتحدث يا ولد··· ورفعت كفيها المرتعشتين ووضعتهما على صفحة وجهها بالكامل وصاحت بذعر: هذه كلها بلدي ··· لا حدود ··· لاقيود··· لا فواصل ولا تقسيم··· هذه بلدي وبلدك يا ولدي··· هذه الخريطة الأصلية وغيرها كذب ··· هذه الخريطة التي طبعتها السنون وحفرها التاريخ· لن تتغير وستظل كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها··· إياك أن تذكر كلمة حدود مرة أخرى يا ولدي· ورفعت كفيه برفق ووضعتهما على وجهها ورددت: هذه هي خريطتكم··· هذه هي بلدكم··· هذه هي أرضكم··· لا سدود··· لا حدود··· لا حدود··· لا حدود وفغرت فاها فبدأ كأنه كهف عميق ··· عميق ··· يختزن الكثير من الأسرار والأخبار··· مالت إلى جنبها الأيمن كأنها تمثال خشبي ··· حركها ولم تتحرك ··· ململها ولم تتململ ··· نظر إليها ملياً··· قرأ سورة الفاتحة وتلا الشهادة ··· أغمض لها جفنيها وكأنه يقفل دفتي سفر تاريخ ضخم··· سألت دموع حارة على خديه ··· جرى مسرعا الى متحف جدته الباهي··· عانق الذكريات··· بكى كما لم يبك من قبل ··· ثم خرج إلى أهله يعلمهم الخبر··· فغاصت البلدة في حزن عميق··· عميق···