جاءها خاطبٌ كفؤ - وكانت ابنةَ عمِّه - خطبها رجُل من بني عبدالله بن دارم فرضِيَتْه،ولكن مَن يلي زواجَها؟ فالزَّواج يحتاج لوليٍّ وشاهِدَين، فوليُّها غائب، فاختارت الفرزْدق ليكون وليَّها، فأرسلتْ إليْه أن زوِّجْني مِن هذا الرَّجل، فقال: لا أفعل أو تشهديني أنَّك قد رضِيت بِمَن زوَّجْتُك، ففعلت، فلمَّا توثَّق منها، قال: أرْسلي إلى القوم فلْيأتوا، فجاءت بنو عبدالله بن دارم فشحنوا مسجد بني مُجاشع، اجتَمَعوا في مسجِدِهم، وأمام حشدٍ كبير سألَها وقد مالت إليْها نفسُه وتملَّكت فؤادَه، وجاء الفرزدق، فحمِد الله، وأثْنى عليه ثم قال: قد علمتم أنَّ النَّوار قد ولَّتني أمْرها، أليْس كذلك؟ قالت: بلى، قال: أُشْهِدكم أنِّي قد زوَّجْتُها نفسي على مائة ناقة حمراء سوداء الحدقة.
فنفرت من ذلك، وأرادت الشُّخوص إلى ابنِ الزُّبير حين أعياها أهل البصرة ألاَّ يطلقوها من الفرزْدق حتَّى يشهد لها الشُّهود، وأعياها الشهود أن يشهدوا لها اتِّقاء الفرزدق، وهو الشَّاعر المشهور بالهجاء، وابن الزبير يومئذٍ أمير الحجاز والعراق يُدْعى له بالخلافة، فلم تَجِدْ مَن يحملها، وأتت فتية من بني عديّ بن عبد مناة بن أد، يقال لهم: بنو أم النُّسير، فسألتْهم برحِمٍ تَجمعهم وإيَّاها - وكانت بينها وبينهم قرابة - فأقسمت عليْهم أمها: ليحملنَّها، فحملوها، فبلغ ذلك الفرزدق، فاستنهض عدَّة من أهل البصرة فأنْهضوه، فأعانوه بإبلٍ ونفقةٍ، فتبع النَّوار، وقال:
فبلغ ابنَ الزبير شعره، ولقِيه على باب المسجِد وهو خارج منه، فضغَطَ حلْقه حتَّى كاد يقتُلُه، ثمَّ خلاَّه. ثمَّ دخل إلى النَّوار فقال لها: "إن شئتِ فرَّقتُ بيْنك وبيْنه ثمَّ ضربتُ عنُقَه فلا يهجونا أبدًا، وإن شئتِ أمضيت نكاحَه، فهو ابن عمِّك وأقرب النَّاس إليك"، وكانت امرأة صالحة، فقالت: أوما غير هذا؟ قال: لا، قالت: ما أحبُّ أن يُقْتل ولكني أمضي أمره فلعلَّ الله أن يَجعل في كرهي إيَّاه خيرًا، فمضت إليه وخرجت معه إلى البصرة. فكان الفرزدق يقول: خرجْنا ونحن متباغِضان، فعدنا متحابين، فلمَّا اصطلحا، ورضِيَت به، ساق إليْها مهْرَها، ودخل بها، وأحْبلها قبل أن يخرج من مكَّة، ثمَّ عادا إلى البصْرة فمكثا ما شاء الله، وأصبح له منها أولادٌ وبنات. لكنَّ ما لم تستطِع أن تحقِّقَه بمعونة السُّلطان والحكَّام والأمراء، وصلت إليه بالحيلة والدَّهاء، فما زالت تتودَّد إليْه حتَّى طلَّقها على أن تبقي أعطياتها له وألاّ تتزوَّج بعده، فقبِلت على أن يشهد طلاقَهما الحسن، فأتيا الحسن فقال له الفرزْدق: يا أبا سعيد، قال له الحسن: ما تشاء؟ قال: أشهد أنَّ النَّوار طالق ثلاثًا، فقال الحسن: قد شهِدْنا، فلمَّا انصرف قال: يا أبا شفقل، قد ندِمْتُ، فقلت له: والله إني لأظنُّ أنَّ دمَك يترقْرق، أتدري مَن أشْهدت؟! والله لئِنْ رجعت لتُرجمن بأحجارك، فمضى وهو يقول: