القصاص فـــي التشريــع الإسلامـــي
القصاص
ومن أهم السمات التي يتميز بها الشرع الإسلامي الحنيف عن القوانين الوضعيةالقصاص كعقوبة للجرائم، والقصاص في الشريعة الإسلامية ثابت وأصيل وله سنده في القرآن والسنة والإجماع، وهو جوهر نظرية العقوبة في الشريعة الإسلامية وسوف نوضحه من حيث المفهوم والمضمون والأنواع والأحكام والنطاق.
1 - تعريف القصاص
تعددت التعريفات في الفقه الإسلامي للقصاص فلا يوجد فقيه أو مذهب في الفقه الإسلامي إلا وتعرض للقصاص بالبحث والدراسة والتفصيل من بدايته إلي نهايته، ورغم ذلك فأنها متفقه في المضمون وإن اختلفت في المبني الألفاظ، نورد هنا بعض منها، وللقصاص تعريف لغوي وتعريف شرعي (مصطلح).
-التعريف اللغوي للقصاص:
القصاص لغة: المساواة علي الإطلاق ومعناه أيضا التتبع ومنه قصص السابقين بمعني أخبارهم، (والقصاص مأخوذ من قص الأثر، وهو إتباعه، ومنه القاص لأنه يتبع الآثار، والأخبار، وقص الشعر أثره، فكأن القاتل سلك طريقا من القتل فقص أثره فيها، ومشي علي سبيله فيها، ومن ذلك قوله تعالي(فارتدا علي آثارهما قصصا)وقيل القص القطع، يقال قصصت ما بينهما، ومنه أخذ القصاص، لأنه يجرحه مثل
جرحه، أو يقتله به، ويقال أفص الحاكم فلانا من فلان، وأباده به فأمتثل منه أي اقتص منه)
-المعني الشرعي أو الاصطلاحي:
والمقصود بالقصاص في الشرع (أن يعاقب المجرم بمثل فعله فيقتل كما قتل ويجرح كما جرح)وهو (عقوبة مقدرة ثبت أصلها بالكتاب، وثبت تفصيلها بالسنة، وهو المساواة بين المساواة بين الجريمة والعقوبة)
ويوجد بين المعني اللغوي والمعني الشرعي تناسب، لأن القصاص يتتبع فيه الجاني، فلا يترك بدون عقاب، ولا يترك المجني عليه من دون أن يشفي غليله والقصاص هو عقوبة الدماء بشكل عام سواء أكانت دماء موضوع الاعتداء فيها النفس أم كان اعتداء موضوعه طرف من الأطراف، أم كان اعتداء موضوعه جرح من الجروح، وضمان المتلفات، أي التعويض بالمثل في الأموال والأسواق، والقصاص موجود في كل العقوبات الإسلامية غير الحدود، وهناك قصاصا قدره الشارع بالنص، وقصاصا آخر لم يحدده الشارع، وترك تحديده لولي الأمر.
2 - أنواع القصاص
وقد قسم الفقهاء القصاص إلي قسمين،قصاص صورة ومعني وقصاص معنوي فقط، فالأول مفاده أن ينزل بالجاني من العقوبة المادية مثل ما أنزل بالمجني عليه، وهذا النوع هو الواضح والظاهر من نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وهو الأصل في القصاص، والثاني قصاص المعنوي وهو دية ما أتلف بالجناية وأرش الجناية، وهو عبارة عن العقوبة المالية علي الاعتداء علي الجسم بالجرح والشج، وهذا القصاص المعنوي الذي يوجد في حالة عدم تعذر الوصول إلي القصاص الأصلي لأنه غير ممكن في ذاته كجرح لا يمكن المماثلة فيه، وفي حالة عدم توافر شروط
القصاص الحقيقي، وفي حالة وجود شبهة تدرأ بها العقوبة، أي أنه في حالة سقوط القصاص الأصلي الصورة والمعني وجب القصاص المعنوي.
ومن حيث نوع الجريمة قسم الفقهاءالقصاصإلي نوعين هما:
1 -قصاص في النفس،أي قتل النفس، عمدا أو شبهة عمد.
2 -قصاص فيما دون النفس، أي في الأطراف والجروح.
من التعريفات السابقة للقصاص يتبين لنا أن القصاص جزاء وفاق للجريمة فالجريمة اعتداء علي النفس الإنسانية، فمن العدالة أن يؤخذ المجرم بجريمته بمثل فعله، وليس من المعقول أن نفكر بالرحمة بالجاني ولا نفكر في ألم المجني عليه وشفاء غيظه، فالقصاص يحمي حياة الناس لأن القاتل إذا حرم أحد من الحياة فأنه يحرم منها، وبالتالي يحافظ علي حياته، لذلك فالقصاص حياة لأنه يحافظ علي الحياة.
3 - الأساس الشرعي للقصاص
القصاص ثابت في الشريعة الإسلامية بالنص عليه في القرآن الكريم والسنة النبوية وفعل الرسول صلي الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون والصحابة رضوان الله عليهم وإجماع الأمة:
1 –القصاص في القرآن الكريم:
ورد النص علي القصاص في القرآن الكريم في عدة آيات هي:
- في قوله تعالي((يَاأَيُّهَاالَّذِينَآمَنُواْكُتِبَ عَلَيْكُمُالْقِصَاصُفِيالْقَتْلَىالْحُرُّبِالْحُرِّوَالْعَبْدُبِالْعَبْدِوَالأُنثَى بِالأُنثَىفَمَنْعُفِيَلَهُمِنْأَخِيهِشَيْءٌفَاتِّبَاعٌبِالْمَعْرُوفِوَأَدَاء إِلَيْهِبِإِحْسَانٍذَلِكَتَخْفِيفٌمِّنرَّبِّكُمْوَرَحْمَةٌفَمَنِاعْتَدَى بَعْدَذَلِكَفَلَهُعَذَابٌأَلِيمٌ {178}وَلَكُمْفِيالْقِصَاصِحَيَاةٌ يَاْأُولِيْالأَلْبَابِلَعَلَّكُمْتَتَّقُونَ {179}.
- وفي قوله تعالي(وَكَتَبْنَاعَلَيْهِمْ فِيهَاأَنَّالنَّفْسَبِالنَّفْسِوَالْعَيْنَبِالْعَيْنِوَالأَنفَ بِالأَنفِوَالأُذُنَبِالأُذُنِوَالسِّنَّبِالسِّنِّوَالْجُرُوحَ قِصَاصٌفَمَنتَصَدَّقَبِهِفَهُوَكَفَّارَةٌلَّهُوَمَن لَّمْيَحْكُمبِمَاأنزَلَاللّهُفَأُوْلَـئِكَهُمُالظَّالِمُونَ {45}
- وفي قوله تعاليوَمَاكَانَلِمُؤْمِنٍأَنيَقْتُلَمُؤْمِنًاإِلاَّخَطَئًاوَمَنقَتَلَ مُؤْمِنًاخَطَئًافَتَحْرِيرُرَقَبَةٍمُّؤْمِنَةٍوَدِيَةٌمُّسَلَّمَةٌإِلَى أَهْلِهِإِلاَّأَنيَصَّدَّقُواْفَإِنكَانَمِنقَوْمٍعَدُوٍّلَّكُمْ وَهُوَمْؤْمِنٌفَتَحْرِيرُرَقَبَةٍمُّؤْمِنَةٍوَإِنكَانَ مِنقَوْمٍبَيْنَكُمْوَبَيْنَهُمْمِّيثَاقٌفَدِيَةٌمُّسَلَّمَةٌ إِلَىأَهْلِهِوَتَحْرِيرُرَقَبَةٍمُّؤْمِنَةًفَمَنلَّمْيَجِدْ فَصِيَامُشَهْرَيْنِمُتَتَابِعَيْنِتَوْبَةًمِّنَاللّهِوَكَانَ اللّهُعَلِيمًاحَكِيمًا )
2 - القصاص في السنة النبوية الشريفة:
وردت أحاديث في السنة النبوية الشريفة دعت إلي الأخذ بالقصاص وحثت عليه أي في السنة القوليه، وهناك من السنة الفعلية ما أخذ بذلك بالفعل، ومن الأحاديث النبوية ما يلي:
-قال رسول الله صلي الله عليه وسلم(من قتل قتلناه) , وقوله عليه الصلاة والسلام(لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، إلا بأحدي ثلاث، الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة) متفق عليه
4 - حكم القصاص
فرض الإسلامالقصاص حتى لا تنتشر الفوضى والاضطرابات في المجتمع،ولإبطال ما كان عليه الجاهليون قبل الإسلام من حروب بين القبائل يموت فيها الأبرياء الذين لا ذنب لهم ولا جرم، فجاء الإسلام وبيَّن أن كل إنسان مسئول عما ارتكبه من جرائم، وأن عليه العقوبة وحده، لا يتحملها عنه أحد.
يأخذ القصاص في الشريعة الإسلامية حكم الفرض الثابت فقد جاء في القرآن الكريم(كتب عليكم القصاص) فهو في منزلة الصيام والجهاد من حيث الحكم فقد جاء في القرآن الكريم (كتب عليكم الصيام)(البقرة:183) و(كتب عليكم القتال) البقرة:(216) وقال تعالي في سورة النساء الآية(103)(إن الصلاة كانت علي المؤمنين كتابا موقوتا) أي أنه من الفروض الثابتة.
تتضمن الآية(179) من سورة البقرة(( ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب)) الحكمة من القصاص في معان بلاغية هي:
1 – جعلت فائدة القصاص عامة تشمل المجتمع كله ولم تقصره علي ولي الدم وحده( المجني عليه) بدليل قوله تعالي في بداية الآية(ولكم) فالقصاص ليس انتقاما لفرد ولكن للمحافظة علي حياة الجماعة والمجتمع المسلم كله.
2 – أطلاق لفظ(القصاص)على العقوبة فيه حكمة أبلغ من العدالة لأن القصاص يتضمن المساواة بين الجريمة والعقوبة، مما يعد معه القصاص مانع قوي وسدا منيعا للجريمة، وبذلك يحيا المجتمع حياة هادئة هانئة مستقرة وتنعدم الجريمة في المجتمع، وهذه غاية لم تصل إليها النظم القانونية الوضعية حتى الآن، فالسياسة العقابية في أي نظام قانوني تهدف للمساواة بين الجريمة والعقوبة.
3 – يتبين من الآية أن حياة الجماعة في القصاص، لأن عدم وجود القصاص يؤدي إلي أهدار الدماء وكثرة القتل في المجتمع، مما يؤدي إلي الفوضى في المجتمع، مما يهدد حياة الجماعة ويهددها بالفناء.
4 – تشير الآية أن الحياة التي تستحق أن يطلق عليها حياة هي الحياة الهادئة المستقرة وهي التي تتحقق بالقصاص، والدليل علي ذلك أن كلمة (حياة) جاءت في الآية نكرة والتنكير هنا للتفخيم والتعظيم.
5 – أن هذه الحكمة البالغة والغاية العظيمة لا تدركها إلا العقول النيرة السليمة التي تعرف جيدا مصلحة الجماعة، فالخطاب في الآية الكريمة لأولي الألباب فقال تعالي(يا أولي الألباب) وهم أصحاب العقول التي خلصت وبرأت من الأهواء والشهوات.
6 – تعتبر هذه الآية ردا بليغا علي دعاة إلغاء عقوبة الإعدام، وتعضدها وتساندها وتؤكدها الآية(32) من سورة المائدة، لأن إلغاء هذه العقوبة يعني كثرة القتل في المجتمع وانتشار الفوضى مما يأتي إلي انهيار هذه المجتمعات، فلا خوف من الحرمان من الحياة وبذلك تنتشر الجرائم الخطيرة التي تهدد كيان المجتمع كله.
وتأكيدا علي أن القصاص حياة قال تعالي في هذه الآية(وَمَنْأَحْيَاهَافَكَأَنَّمَاأَحْيَاالنَّاسَ جَمِيعًا)ويدل ذلكعلى أن القصاص من القاتل يعني إحياء للحياة المجني عليه باحترام دمه وعدم ضياعه هدرا، وبالتالي تتحصن حياة كل نفس في
المجتمع وتحمي وتحيى، لأن القصاص فيه ردعا عام للمجتمع فمن عرف أنه إذا قتل سوف يقتل فأنه يحفظ ويحافظ علي حياته وحياة غيره، وقد أشارت هذه الآية إلي الغاية الحقيقية من القصاص وهي المحافظة علي حياة الأفراد في المجتمع، هذا بشأن القصاص في القتل.
ولكن القصاص يوجد أيضا في الأطراف وليس في القتل وحده، وبينت ذلك ونصت عليه الآية(45) من سورة المائدة فقال تعالي((وَكَتَبْنَاعَلَيْهِمْ فِيهَاأَنَّالنَّفْسَبِالنَّفْسِوَالْعَيْنَبِالْعَيْنِوَالأَنفَ بِالأَنفِوَالأُذُنَبِالأُذُنِوَالسِّنَّبِالسِّنِّوَالْجُرُوحَ قِصَاصٌفَمَنتَصَدَّقَبِهِفَهُوَكَفَّارَةٌلَّهُوَمَن لَّمْيَحْكُمبِمَاأنزَلَاللّهُفَأُوْلَـئِكَهُمُالظَّالِمُونَ)).
وقد أجمع فقهاء الإسلام من عهد الصحابة إلي عصر الأئمة المجتهدين وبإجماع الأمة علي أن القصاص فرض فيما دون النفس ومكتوب إذا أمكن، بدليل النص عليه في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، لأن ما دون النفس(الأطراف) يجب المحافظة عليه والقصاص يحافظ عليه، والقصاص يجب في كل الأطراف وليس في الأطراف المذكورة صراحة في الآية(45) السالفة، بدليل قوله تعالي(وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ).
وقد أخذ بعض القانونيين علي القصاص فيما دون النفس بعض الانتقادات هي:
1 – يؤدي الأخذ به إلي كثرة المشوهين في المجتمع، مما يعيق العمل وينقص من القدرة البشرية في المجتمع.
2 – أنه ليس عقابا بل انتقاما، وغاية القوانين الإصلاح وليس الانتقام.
3 – لا يندر المساواة في قطع الأطراف، حيث يمكن قطع اليد القوية باليد الضعيفة.
هذه الانتقادات غير صحيحة بل هي مغرضة لما يأتي:
1 - أن القصاص في الأطراف لا يكثر المشوهين في المجتمع بل العكس هو الذي يحدث، لأن الإنسان إذا عرف أنه إذا أقدم علي قطع يد أخر فأن يده ستقطع،
فأنه لن يقدم علي هذا الفعل، مما يتحقق معه منع الجريمة وليس زيادتها كما يدعي هؤلاء.
2- أن القصاص في الأطراف ليس انتقاما لأن الانتقام ليس فيه مساواة بين الجريمة والعقوبة بل مساواة حقيقية بينهما كما أن الانتقام يكون من المجني عليه وليس من ولي الأمر(الحاكم أو من ينوب عنه)، والقصاص يقوم به ولي الأمر وليس المجني عليه.
3 – مناط الحماية في القصاص فيما دون النفس أي في الأطراف والجروح هي سلامة الأعضاء وليس التساوي في القوي الطبيعة، أي قوتها، فقد تكون يد ضعيفة في نظر الناس ولكنها في نظر صاحبها قوية تؤدي دورها في حياته كاملة كما هو الحال مع الأقوياء الأصحاء، لأن أساس القصاص المساواة في الأنفس البشرية لأن الناس متساوية أمام التشريع الإسلامي.
وعلي ذلك لا يجب ولا يصح أن يكون هناك تفاوت بين الناس في القصاص، وقد أكد ذلك قول الرسول صلي الله عليه وسلم(المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم)فالمساواة في القصاص تكون في الأنفس والأعضاء والدماء، فلا تفرقة بين الناس في الأوصاف سواء كانت أوصافا ذاتية فلا فرق بين لون ولون فقد قال رسول الله صلي الله عليه وسلم(كلكم لآدم وآدم من تراب لا فضل لعربي علي أعجمي ولا أبيض علي أسود إلا بالتقوى والعمل الصالح) وقال أيضا (الناس سواسية كأسنان المشط).
يلاحظ عند القصاص في الأطراف تحقيق المماثلة وعدم الاعتداء أو النقص في أمور ثلاثة هي:
1 – التقابل بين الأعضاء فالأعضاء المتقابلة تقطع، فاليد اليمني باليد اليمني والصحيحة بالصحيحة فلا تقطع الصحيحة بالمريضة وهكذا.
2 – الأ تؤدي المقابلة إلي زيادة أو نقص، بمعني أن يكون التماثل ممكنا لا يزيد عن الجريمة، فإن كان التماثل غير ممكن فلا يوجد القصاص، التماثل في الوصف والتماثل في فقد المنافع.
3 – أن تكون المنفعة التي فقدت تقابل المنفعة التي تزول بالقصاص.
4-لا يقام القصاص إلا بعد أن يشفي المجني عليه، فإن شفي وعاد لهيئته ولميحدث نقصان فليس فيه قصاص، فإن كان هناك نقصان أقيم القصاص بحسب ما قطع
**
المصدر :
نظرية التشريع الجنائي الإسلامي في القصاص
تأليف
الدكتور
السيد مصطفي أحمد أبو الخير
الخبير في القانون الدولي