تفسير سورة الزخرف للشيخ السعدي
تفسير سورة الزخرف
من1 -- 33
مكية
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حم ( 1 ) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ ( 2 ) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ( 3 ) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ( 4 ) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ ( 5 ) .
هذا قسم بالقرآن على القرآن، فأقسم بالكتاب المبين وأطلق، ولم يذكر المتعلق، ليدل على أنه مبين لكل ما يحتاج إليه العباد من أمور الدنيا والدين والآخرة.
( إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا ) هذا المقسم عليه، أنه جعل بأفصح اللغات وأوضحها وأبينها، وهذا من بيانه. وذكر الحكمة في ذلك فقال: ( لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) ألفاظه ومعانيه لتيسرها وقربها من الأذهان.
( وَإِنَّهُ ) أي: هذا الكتاب ( لَدَيْنَا ) في الملأ الأعلى في أعلى الرتب وأفضلها ( لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ) أي: لعلي في قدره وشرفه ومحله، حكيم فيما يشتمل عليه من الأوامر والنواهي والأخبار، فليس فيه حكم مخالف للحكمة والعدل والميزان.
ثم أخبر تعالى أن حكمته وفضله يقتضي أن لا يترك عباده هملا لا يرسل إليهم رسولا ولا ينزل عليهم كتابا، ولو كانوا مسرفين ظالمين فقال:
( أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا ) أي: أفنعرض عنكم، ونترك إنزال الذكر إليكم، ونضرب عنكم صفحا، لأجل إعراضكم، وعدم انقيادكم له؟ بل ننزل عليكم الكتاب، ونوضح لكم فيه كل شيء، فإن آمنتم به واهتديتم، فهو من توفيقكم، وإلا قامت عليكم الحجة، وكنتم على بينة من أمركم.
وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الأَوَّلِينَ ( 6 ) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ( 7 ) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ ( 8 ) .
يقول تعالى: إن هذه سنتنا في الخلق، أن لا نتركهم هملا فكم ( أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الأوَّلِينَ ) يأمرونهم بعبادة اللّه وحده لا شريك له، ولم يزل التكذيب موجودا في الأمم.
( وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) جحدا لما جاء به، وتكبرا على الحق.
( فَأَهْلَكْنَا أَشَدّ ) من هؤلاء ( بَطْشًا ) أي: قوة وأفعالا وآثارا في الأرض، ( وَمَضَى مَثَلُ الأوَّلِينَ ) أي: مضت أمثالهم وأخبارهم، وبينا لكم منها ما فيه عبرة ومزدجر عن التكذيب والإنكار.
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ( 9 ) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ( 10 ) .
يخبر تعالى عن المشركين، أنك لو ( سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ ) الله وحده لا شريك له، العزيز الذي دانت لعزته جميع المخلوقات، العليم بظواهر الأمور وبواطنها، وأوائلها وأواخرها، فإذا كانوا مقرين بذلك، فكيف يجعلون له الولد والصاحبة والشريك؟! وكيف يشركون به من لا يخلق ولا يرزق، ولا يميت ولا يحيي؟!
ثم ذكر أيضا من الأدلة الدالة على كمال نعمته واقتداره، بما خلقه لعباده من الأرض التي مهدها وجعلها قرارا للعباد، يتمكنون فيها من كل ما يريدون.
( وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا ) أي: جعل منافذ بين سلاسل الجبال المتصلة، تنفذون منها إلى ما وراءها من الأقطار. ( لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) في السير في الطرق ولا تضيعون، ولعلكم تهتدون أيضا في الاعتبار بذلك والادكار فيه.
وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ ( 11 ) وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ ( 12 ) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ( 13 ) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14 ) .
( وَالَّذِي نزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ ) لا يزيد ولا ينقص، ويكون أيضا بمقدار الحاجة، لا ينقص بحيث لا يكون فيه نفع، ولا يزيد بحيث يضر العباد والبلاد، بل أغاث به العباد، وأنقذ به البلاد من الشدة، ولهذا قال: ( فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا ) أي: أحييناها بعد موتها، ( كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ ) أي: فكما أحيا الأرض الميتة الهامدة بالماء، كذلك يحييكم بعد ما تستكملون في البرزخ، ليجازيكم بأعمالكم.
( وَالَّذِي خَلَقَ الأزْوَاجَ كُلَّهَا ) أي: الأصناف جميعها، مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون، من ليل ونهار، وحر وبرد، وذكر وأنثى، وغير ذلك. ( وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ ) أي: السفن البحرية، الشراعية والنارية، مَا تَرْكَبُونَ ( و ) من ( الأنعام ما تركبون * لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ )
وهذا شامل لظهور الفلك ولظهور الأنعام، أي: لتستقروا عليها، ( ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ ) بالاعتراف بالنعمة لمن سخرها، والثناء عليه تعالى بذلك، ولهذا قال: ( وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ) أي: لولا تسخيره لنا ما سخر من الفلك، والأنعام، ما كنا مطيقين لذلك وقادرين عليه، ولكن من لطفه وكرمه تعالى، سخرها وذللها ويسر أسبابها.
والمقصود من هذا، بيان أن الرب الموصوف بما ذكره، من إفاضة النعم على العباد، هو الذي يستحق أن يعبد، ويصلى له ويسجد.
وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ ( 15 ) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ ( 16 ) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ( 17 ) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ( 18 ) وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ ( 19 ) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ ( 20 ) أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ ( 21 ) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ ( 22 ) .
يخبر تعالى عن شناعة قول المشركين، الذين جعلوا للّه تعالى ولدا، وهو الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، ولم يكن له كفوا أحد، وإن ذلك باطل من عدة أوجه:
منها: أن الخلق كلهم عباده، والعبودية تنافي الولادة.
ومنها: أن الولد جزء من والده، واللّه تعالى بائن من خلقه، مباين لهم في صفاته ونعوت جلاله، والولد جزء من الوالد، فمحال أن يكون للّه تعالى ولد.
ومنها: أنهم يزعمون أن الملائكة بنات اللّه، ومن المعلوم أن البنات أدون الصنفين، فكيف يكون لله البنات، ويصطفيهم بالبنين، ويفضلهم بها؟! فإذا يكونون أفضل من اللّه، تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا.
ومنها: أن الصنف الذي نسبوه للّه، وهو البنات، أدون الصنفين، وأكرههما لهم، حتى إنهم من كراهتهم لذلك ( إِذَا بُشّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا ) من كراهته وشدة بغضه، فكيف يجعلون للّه ما يكرهون؟
ومنها: أن الأنثى ناقصة في وصفها، وفي منطقها وبيانها، ولهذا قال تعالى: ( أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ ) أي: يجمل فيها، لنقص جماله، فيجمل بأمر خارج عنه؟ ( وَهُوَ فِي الْخِصَامِ ) أي: عند الخصام الموجب لإظهار ما عند الشخص من الكلام، ( غَيْرُ مُبِينٍ ) أي: غير مبين لحجته، ولا مفصح عما احتوى عليه ضميره، فكيف ينسبونهن للّه تعالى؟
ومنها: أنهم جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الله إِنَاثًا، فتجرأوا على الملائكة، العباد المقربين، ورقوهم عن مرتبة العبادة والذل، إلى مرتبة المشاركة للّه، في شيء من خواصه، ثم نزلوا بهم عن مرتبة الذكورية إلى مرتبة الأنوثية، فسبحان من أظهر تناقض من كذب عليه وعاند رسله.
ومنها: أن اللّه رد عليهم بأنهم لم يشهدوا خلق اللّه لملائكته، فكيف يتكلمون بأمر من المعلوم عند كل أحد، أنه ليس لهم به علم؟! ولكن لا بد أن يسألوا عن هذه الشهادة، وستكتب عليهم، ويعاقبون عليها.
وقوله تعالى: ( وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ ) فاحتجوا على عبادتهم الملائكة بالمشيئة، وهي حجة لم يزل المشركون يطرقونها، وهي حجة باطلة في نفسها، عقلا وشرعا. فكل عاقل لا يقبل الاحتجاج بالقدر، ولو سلكه في حالة من أحواله لم يثبت عليها قدمه.
وأما شرعا، فإن اللّه تعالى أبطل الاحتجاج به، ولم يذكره عن غير المشركين به المكذبين لرسله، فإن اللّه تعالى قد أقام الحجة على العباد، فلم يبق لأحد عليه حجة أصلا ولهذا قال هنا: ( مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ ) أي: يتخرصون تخرصا لا دليل عليه، ويتخبطون خبط عشواء.
ثم قال: ( أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ ) يخبرهم بصحة أفعالهم، وصدق أقوالهم؟ ليس الأمر كذلك، فإن اللّه أرسل محمدا نذيرا إليهم، وهم لم يأتهم نذير غيره، أي: فلا عقل ولا نقل، وإذا انتفى الأمران، فلا ثَمَّ إلا الباطل.
نعم، لهم شبهة من أوهى الشُّبَه، وهي تقليد آبائهم الضالين، الذين ما زال الكفرة يردون بتقليدهم دعوة الرسل، ولهذا قال هنا: ( بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ ) أي: على دين وملة ( وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ ) أي: فلا نتبع ما جاء به محمد صلى اللّه عليه وسلم.
وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ ( 23 ) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ( 24 ) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ( 25 ) .
( وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا ) أي: منعموها، وملأها الذين أطغتهم الدنيا، وغرتهم الأموال، واستكبروا على الحق. (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ ) أي: فهؤلاء ليسوا ببدع منهم، وليسوا بأول من قال هذه المقالة.
وهذا الاحتجاج من هؤلاء المشركين الضالين، بتقليدهم لآبائهم الضالين، ليس المقصود به اتباع الحق والهدى، وإنما هو تعصب محض، يراد به نصرة ما معهم من الباطل.
ولهذا كل رسول يقول لمن عارضه بهذه الشبهة الباطلة: ( أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ ) أي: فهل تتبعوني لأجل الهدى؟ ( قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ) فعلم بهذا، أنهم ما أرادوا اتباع الحق والهدى، وإنما قصدهم اتباع الباطل والهوى.
( فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ ) بتكذيبهم الحق، وردهم إياه بهذه الشبهة الباطلة. ( فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ) فليحذر هؤلاء أن يستمروا على تكذيبهم، فيصيبهم ما أصابهم.
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ ( 26 ) إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ( 27 ) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( 28 ) بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ ( 29 ) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ ( 30 ) وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ( 31 ) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ( 32 ) .
يخبر تعالى عن ملة إبراهيم الخليل عليه السلام، الذي ينتسب إليه أهل الكتاب والمشركون، وكلهم يزعم أنه على طريقته، فأخبر عن دينه الذي ورثه في ذريته فقال: ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ ) الذين اتخذوا من دون اللّه آلهة يعبدونهم ويتقربون إليهم:
( إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ ) أي: مبغض له، مجتنب معاد لأهله، ( إِلا الَّذِي فَطَرَنِي ) فإني أتولاه، وأرجو أن يهديني للعلم بالحق والعمل به، فكما فطرني ودبرني بما يصلح بدني ودنياي، فـ ( سَيَهْدِينِ ) لما يصلح ديني وآخرتي.
( وَجَعَلَهَا ) أي: هذه الخصلة الحميدة، التي هي أم الخصال وأساسها، وهي إخلاص العبادة للّه وحده، والتبرِّي من عبادة ما سواه.
( كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ ) أي: ذريته ( لَعَلَّهُمْ ) إليها ( يَرْجِعُونَ ) لشهرتها عنه، وتوصيته لذريته، وتوصية بعض بنيه - كإسحاق ويعقوب- لبعض، كما قال تعالى: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ إلى آخر الآيات.
فلم تزل هذه الكلمة موجودة في ذريته عليه السلام حتى دخلهم الترف والطغيان.
فقال تعالى: ( بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ ) بأنواع الشهوات، حتى صارت هي غايتهم ونهاية مقصودهم، فلم تزل يتربى حبها في قلوبهم، حتى صارت صفات راسخة، وعقائد متأصلة. ( حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ ) الذي لا شك فيه ولا مرية ولا اشتباه. ( وَرَسُولٌ مُبِينٌ ) أي: بين الرسالة، قامت أدلة رسالته قياما باهرا، بأخلاقه ومعجزاته، وبما جاء به، وبما صدق به المرسلين، وبنفس دعوته صلى اللّه عليه وسلم.
( وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ ) الذي يوجب على من له أدنى دين ومعقول أن يقبله وينقاد له. ( قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ ) وهذا من أعظم المعاندة والمشاقة، فإنهم لم يكتفوا بمجرد الإعراض عنه، بل ولا جحده، فلم يرضوا حتى قدحوا به قدحا شنيعا، وجعلوه بمنزلة السحر الباطل، الذي لا يأتي به إلا أخبث الخلق وأعظمهم افتراء، والذي حملهم على ذلك، طغيانهم بما متعهم اللّه به وآباءهم.
( وَقَالُوا ) مقترحين على اللّه بعقولهم الفاسدة: ( لَوْلا نزلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) أي: معظم عندهم، مبجل من أهل مكة، أو أهل الطائف، كالوليد بن المغيرة ونحوه، ممن هو عندهم عظيم.
قال اللّه ردا لاقتراحهم: ( أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ) أي: أهم الخزان لرحمة اللّه، وبيدهم تدبيرها، فيعطون النبوة والرسالة من يشاءون، ويمنعونها ممن يشاءون؟
( نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ ) أي: في الحياة الدنيا، والحال أن رَحْمَةَ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ من الدنيا.
فإذا كانت معايش العباد وأرزاقهم الدنيوية بيد اللّه تعالى، وهو الذي يقسمها بين عباده، فيبسط الرزق على من يشاء، ويضيقه على من يشاء، بحسب حكمته، فرحمته الدينية، التي أعلاها النبوة والرسالة، أولى وأحرى أن تكون بيد اللّه تعالى، فاللّه أعلم حيث يجعل رسالته.
فعلم أن اقتراحهم ساقط لاغ، وأن التدبير للأمور كلها، دينيها ودنيويها، بيد اللّه وحده. هذا إقناع لهم، من جهة غلطهم في الاقتراح، الذي ليس في أيديهم منه شيء، إن هو إلا ظلم منهم ورد للحق.
وقولهم: ( لَوْلا نزلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) لو عرفوا حقائق الرجال، والصفات التي بها يعرف علو قدر الرجل، وعظم منزلته عند اللّه وعند خلقه، لعلموا أن محمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب صلى اللّه عليه وسلم، هو أعظم الرجال قدرا، وأعلاهم فخرا، وأكملهم عقلا وأغزرهم علما، وأجلهم رأيا وعزما وحزما، وأكملهم خلقا، وأوسعهم رحمة، وأشدهم شفقة، وأهداهم وأتقاهم.
وهو قطب دائرة الكمال، وإليه المنتهى في أوصاف الرجال، ألا وهو رجل العالم على الإطلاق، يعرف ذلك أولياؤه وأعداؤه، فكيف يفضل عليه المشركون من لم يشم مثقال ذرة من كماله؟!، ومن جرمه ومنتهى حمقه أن جعل إلهه الذي يعبده ويدعوه ويتقرب إليه صنما، أو شجرا، أو حجرا، لا يضر ولا ينفع، ولا يعطي ولا يمنع، وهو كل على مولاه، يحتاج لمن يقوم بمصالحه، فهل هذا إلا من فعل السفهاء والمجانين؟
فكيف يجعل مثل هذا عظيما؟ أم كيف يفضل على خاتم الرسل وسيد ولد آدم صلى اللّه عليه وسلم؟ ولكن الذين كفروا لا يعقلون.
وفي هذه الآية تنبيه على حكمة اللّه تعالى في تفضيل اللّه بعض العباد على بعض في الدنيا ( لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا ) أي: ليسخر بعضهم بعضا، في الأعمال والحرف والصنائع.
فلو تساوى الناس في الغنى، ولم يحتج بعضهم إلى بعض، لتعطلت كثير من مصالحهم ومنافعهم.
وفيها دليل على أن نعمته الدينية خير من النعمة الدنيوية كما قال تعالى في الآية الأخرى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ
وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ ( 33 ) .
يخبر تعالى بأن الدنيا لا تسوى عنده شيئا، وأنه لولا لطفه ورحمته بعباده، التي لا يقدم عليها شيئا، لوسَّع الدنيا على الذين كفروا توسيعا عظيما، ولجعل ( لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ ) أي: درجا من فضة ( عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ ) على سطوحهم.