الغضب وقود الشرور بين الزوجين
الغضب وقود الشرور بين الزوجين
حمد عبدالرحمن المانع
من المعلوم بأنه ليس ثمة إنسان على ظهر هذه البسيطة يخلو من صفة الغضب، وهي ملتصقة بالإنسان منذ خلق الله الخق، وتتباين حدتها من شخص لآخر، فتجد من هو سريع الغضب أو كما يقال (عصبي) وتجد من هو بطيء الغضب أو (وسيع صدر)، كما يحلو للبعض أن يسميه، ومحور الارتكاز في هذه العملية، هو التحكم بالمشاعر في حالة حدوث ما يدعو إليه، ومسألة التحكم هذه ترتبط كذلك بعوامل مؤثرة في هذا الجانب، وأبرزها بلا ريب التمالك، وهي أن يملك الإنسان نفسه في هذه الناحية، لا أن يفقدها، ولا يوجد على الإطلاق من يرغب في فقدان نفسه إلا أعمى البصيرة، وتحقيق التوازن في حالة الشعور هذه ليس فقط ما يجلب الراحة لمحققها فحسب، بل هو نبل الذات وسمو الأخلاق وصفاء الروح ليحلقون معاً في سماء صافية، مؤثرين المحبة والرفعة وضاربين أروع الأمثلة في بعد أخلاقي بديع، تكسوه الطمأنينة وتشبعه روح المحبة انطلاقاً من مبدأ العفو عند المقدرة والتسامح في وقت الشدة، هذا المبدأ الجليل والنبيل في الوقت نفسه والذي ما فتئ معتقاً رقاباً من حبل المشنقة، وما برح مانحاً الفسحة لمن أساء وندم في استلهام فريد وفذ من كتاب مالك الملك سبحانه وتعالى وهو العفو الودود ودائماً ما نسمع بأن فلاناً طيب القلب، وحينما تُخلع عليه هذه الصفة، فإنها من واقع الاحتكاك مع الشخص الطيب، وغالباً ما يتم القياس في طيبة قلبه من عدمها في حالات الغضب، إذ أن الإناء ينضح في هذه المرحلة بالذات ليتضح ما فيه، بجلاء، فمن منكم لا يرغب في أن تطلق عليه، هذه الصفة الجميلة والرقيقة، قطعاً الجميع يرغبون في أن يكونوا كذلك، إذن لماذا لا نجسد هذه الصفة في سلوكنا، وفي هذه الحالة بالذات، لاسيما وأنها تعد مؤشراً قوياً ومؤثراً في هذا الجانب، مع الأخذ بالاعتبار بأن الخلوة مع النفس وفي هذا الوقت الحرج والحساس مقروناً باستغفار المولى عز وجل، من شأنه كبح جماح النزعة العدوانية داخل النفس البشرية، وقطع الطريق على مؤذي البشرية في السر والعلن، الشيطان اللعين، وإذا كنت تمارس التأديب مع أبنائك بأسلوب يقطع باليقين بأن غضبك لن يضرهم أو يسيء إليهم، فلماذا لا تمارس ذات الأسلوب مع الآخرين ولسان حالهم يقول:
حرام على بلابله الدوح
حلال للطير من كل جنس
والتأديب الذي لا يلحقه مضرة تمرير للإصلاح بمفهوم يعكس دماثة الخلق، وبُعد النظر وحسن وسلامة العقيدة وصفائها، وإذا كنت تفسد الشيء لتصلحه فلماذا تفسده أصلاً، فالكأس إذا انكسر يستحيل تجميعه وتصليحه، والغضب وقود الخطيئة، وكم من إنسان وقع في أتونها نتيجة انتفاء التحقق والتثبت عطفاً على رد فعل متسرع لن يجد التهور فيه مشقة من الإمساك بزمام الأمور ولن تجد الرعونة مناخاً ملائماً أفضل منه، حتى إذا تمكنوا من المخطئ، وبسطوا سيطرتهم أفلتوه بعدما سقط في أوحال الإثم، ليحقق عدو الله إبليس اللعين وأعوانه مآربهم ويتركوه وحيداً بائساً، في حين أن هؤلاءقد أسرعوا بالحضور في ظل هذا الخصام ليوغلوا الصدور ويملؤوها غلاً وحقداً، ليتوشح الباطل بلباس الحق وفقاً لتصور لا يعدو كونه رأس حربة للإفك يغطيه البهتان من كل جانب، وإذا بالغ الإنسان بالظن وعمل بمقتضاه بمعزل من اليقين، فإنه لا محالة سيقع بالإثم قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ...}
وكثيراً ما يتواجد الغضب في الأسرة وتحديداً بين الزوجين، وقد يركن بعض الأزواج إلى استعمال العنف مع زوجاتهم، وهذا قصور في الوعي والإدراك وغياب تام للعقل والأخلاق، يا أخي اتقي الله في نفسك، إذا كنت لا ترضى بأن تمارس هذا الأسلوب مع أبنائك فكيف تسوغ لنفسك بأن تمارسه مع بنت الناس، وأنت حينما خطبتها ظهرت حملاً وديعاً، مؤدباً وعلى خلق، وكأنك الموزع المعتمد للابتسامات في ذلك اليوم، في حين أنك تضمر الشر ودناءة النفس من خلال ما تبطن، ولتدرك بأنها وإن سكتت، ولم ترغب بفضحك لتحمي أولادها من التشرد، فإن الله سبحانه وتعالى قد يسوق لك حملاً وديعاً آخر ليتزوج ابنتك ويذيقها صنوف العذاب بعيداً عنك، فهل ترضى في ذلك، قطعاً لا، إذن إذا حدثت مشادة وكلمة من هنا وكلمة من هناك، وزاد أحمرار عينيك من الغضب فيا أخي أخرج من البيت وأنت تستطيع بينما هي لا تستطيع، حتى تهدأ نفسك وتلقم هؤلاء الشياطين الذين استولوا على قلبك على حين غرة احجاراً، وفي المقابل فإن الزوجة أيضاً يقع على عاتقها، مسؤولية في هذا الصدد، عبر المساهمة في تحقيق أكبر قدر من التوازن وضبط النفس، فقيادة الأسرة مرهونة بالطرفين فإن حكموا العقل في التعامل بينهم فإنك ستجد أسرة بإذن الله على قدر قليل من الأخطاء وصولاً للتكامل في هذه الناحية وإنشاء جيل صالح قال الشاعر:
الأم مدرسة إذا أعددتها
أعددت شعباً طيب الأعراق
والمرأة أو الزوجة بصفة خاصة ليست ضعيفة كما يتصورها البعض، أو يرغب في ذلك فهي قوية ومصدر قوتها يكمن في قوة إيمانها وطاعتها لربها وطاعة الزوج من طاعة الرب، لأنه أمر بذلك سبحانه، وغني عن القول أن تربية الأطفال وتنشئتهم التنشئة الصحيحة، والمكسوة بالإيمان وطاعة الرحمن، أمانة عظيمة وأية أمانة إذ ينبغي استشعار هذا الأمر، والعمل بمقتضاه، والحرص والعناية إذ أن نشوء الخلاف بين الزوجين، وآمل أن لا يتجاوز هذا الإطار، ولا أقول عراك فالعراك لا يتم إلا بين البهائم فإن الخلاف أمام الأطفال بلا ريب سيؤثر سلباً ما ينعكس على شخصية الطفل، وبالتالي حدوث الاهتزاز وفقدان التوازن لدى الطفل مفضياً إلى الازدواجية والانفصام وهذا أمر بالغ الأهمية، فكيف يتعلم في المدرسة الأخلاق الفاضلة وكيف نطمح إلى اعداد جيل طيب الأعراق، وهو ينشأ في حلبة مصارعة، فما تلبث أن تبدأ الجولة الأولى حتى تتبعها الثانية، والأدهى من ذلك أن هذه الجولات تنتهي بنتيجة الجميع فيها خاسر فلا استسلام ولا تثبيت كتفين، عدا أنها تثبيت لاكتاف الصغار الذين لا حول لهم ولا قوة، فينشأ الشاب منهم أو الفتاة وقد غرست النزعة العدوانية أنيابها في أفئدتهم، تبعاً إلى (الشيل والحط) والذي يرونه أمام أعينهم.
ويسيطر في هذه الأجواء الملبدة بالغيوم مفهوم غالباً ما يرتبط بالغضب ويصاحبه أينما حل وارتحل ألا وهو (الكبرياء) ويفقد هذا المفهوم دلالته ومضمونه حينما يربط قسراً ولسوء فهم (بعزة النفس) واعتبار التراجع من أحد الأطراف شرخاً للكبرياء حتى ولو كان مخطئاً وهذا حكم بيزنطي لا يرتقي بحال من الأحوال إلى آفاق التعقل والاتزان، وما يوقع المرأة تحديداً في هذه الإشكالية ليس تنازلها عن حقها فلها كبرياؤها بقدر ما يكون (لسانها) ونبرة التعالي والتمايز الممقوت عبر الإشارة لاختلاف المستويات وإبراز هذا الأمر حقيقة من شأنه بتر وشائج القربى ويجرح الكرامة، فإذا كان الأمر كذلك فلِمَ قبلت به أصلاً ولما قبلت بها أصلاً، إضافة إلى أن هذا الشرخ يبقى في النفس ويظهر هذا الطفيلي كلما شم رائحة (مشاجرة) وإن لم يتم توجيه الدعوة إليه فينبغي الحذر كل الحذر وتحديداً في هذه المسألة الحساسة.
وقد تساهم مرحلة الجفاء بين الزوجين، بإفراز ترسبات سلبية، مرهونة بالمدة فكلما زادت المدة كلما شكل التشنج مناخاً ملائماً للغلظة في البروز، وبالتالي انحسار اطر المنافع المعنوية، وتضاؤل دورها عطفاً على قسوة القلب، وإن لم تكن بالضرورة ملتصقة هذه القسوة بالصفة بقدر ما تتأثر هذه القسوة بعوامل، ومنها على سبيل المثال اختلال التوازن وعدم فقدان الكبرياء والأنفه، وكأن كلمة (آسف) تصبح في هذه الحالة ساطوراً يجز هذه الأنفة أو الكبرياء، وهذا تصور مغلوط وإفراط في هدر الحقوق، بل إنه استغلال بغيض، فكيف يتم الاعتذار للمخطئ وهو الاجدر بالاعتذار والاعتراف وخصوصاً إذا كان يعلم ذلك، وهذا في طبيعة الحال ينطوي على محاسبة النفس، فالنفس الممتلئة إيماناً لا تقبل الظلم، حتى لو بدر منها ما يوجب التراجع والاعتذار، وفي حالة أن التراجع أو الاعتذار بكلمة (آسف) والتي (يجفل) منها البعض وخصوصاً من يتصف بالغلظة لتشكل سياجاً مزيفاً من افراط لثقة في النفس لا تعدو كونها مصادرة حق الآخرين، فإن هناك أساليب متعددة للتراجع بمعزل عن قول هذه الكلمة والتي إن لم أكن مبالغاً لا تخرج من فيء المخطئ والبعض منهم إلا في السنة حسنة، وهي ليست حسنة بل هو واجب يمليه عليه ضميره، وقد يعيش البعض ويموت وهو لم ينطق بهذه الكلمة، وفي المقابل فإنك تجد البعض يألف هذه الكلمة ولا ينفر منها، ويقولها كلما شعر بأنه غمط حق الآخر، وهذا لعمري سمو في الأخلاق وصفاء للقلب، وسلامة في النية والقصد، قال الشاعر:
وإذا جفوت قطعت عنك منافعي
والدر يقطعه جفاء الحالم
(والمناقر) بين الزوجين قد يتم لأسباب تافهة ولا تبرح أن تختلط مع المفاهيم التي أوردتها قبلاً وتتضخم الأغراض إلى الحد الذي يستعصى معه العلاج مع العلم بأنه لو تم احتواؤه وقت حدوثه وكأن شيئاً لم يكن، وقد يكون الافراط من الجوانب الرئيسية لتفاقم هذه المشكلات وتصعيدها، وكما قيل (الشيء إذا زاد عن حده انقلب ضده) فالإفراط في التدليل قد ينعكس سلباً، بل أنه لا يلبث أن ينشئ حالة من الجفاء لأن العواطف تلتهب في هذه الحالة مفرزاً هذا الالتهاب جمرة صغيرة قد تعصف بالأسرة بأكملها ولأن من اسبغ عليك الدلال فإن بدر منك ولو خطأ صغير فإنه يراه ضخماً عطفاً على ما منحك، وتحقيق الاتزان في هذا الجانب من أهم الأمور فلا إفراط ولا تفريط، وقد علمنا ديننا الحنيف كل هذه القيم الفاضلة والمبادئ النبيلة فلِمَ لا نسير في نهجها ونجعلها نوراً يضيء طريقنا في الدنيا والآخرة، والجدير بالذكر أيضاً التنبيه إلى موضوع في غاية الأهمية ألا وهو الابتعاد كل البعد عن التحقير والازدراء وهذه صفات مقيتة لا تمت لأخلاق المسلم بصلة، ومن ضمن الجوانب التي تعين الزوجين وتسهم وبشكل مباشر في تنامي حالة الوئام والوفاق، هو احترام الخصوصية إذ أن كل شخص له خصوصياته وقد تكون بين الزوجين ضئيلة نسبياً لأن الشفافية في التعامل هي من مقومات النجاح بين الأطراف عموماً، والزوجين بشكل خاص، إلا أن احترام خصوصية الآخر من الأهمية بمكان بعيداً عن (اللقافة) وتدخل المرء فيما لا يعنيه ومن تدخل فيما لا يعنيه سمع ما لا يرضيه، واذكر حكاية طريفة، قرأتها وهي أن أحدهم كان متزوجاً من أربع نساء ويبدو أنه من صنف (وسيع الصدر) الذي أشرت إليه في بداية حديثي ولكن القصة تحكي خلاف ذلك حيث قام بتطليق زوجته الأولى، فثارت الثانية وقال كيف تطلق أم أولادك- وربما له أسبابه- قال لها أنت أيضاً طالق فاحتجت الثالثة من رعونته في التصرف وكيف يطلق زوجتيه الأولى والثانية فقال أنت أيضاً طالق ولم تستفد الرابعة من تجربة الثالثة فانتقدته على تصرفه وكيف يطلق أم أولاده فقال أنت أيضاً طالق، وكانت أم الجيران تسمع كل ما يدور، فقالت وبصوت عال كيف يا رجل تطلق زوجاتك الأربع ومنهم من هي أم لأولادك فقال أنت أيضاً طالق إذا أجاز زوجك ذلك، وكان زوجها يسمع، فقال، قد أجزت قد أجزت، إذن الثانية تدخلت في أمور تخصه ولا تعنيها وقد يخفي مبرراته ولحقت بها الثالثة والرابعة، وحتى أم الجيران لم تسلم من هذا الطوفان الذي أتى على حين غرة وهو بذلك قد منح أعوان الشيطان هدايا متتالية لأنهم يفرحون أيما فرح في التفريق بين الأزواج لعنهم الله، خلاصة القول أن الرياح وأن هدأت فما تلبث العواصف مذكية سرعتها لتجنح بالسفينة وتقلبها رأساً على عقب، بيد أن ثبات السفينة وإبحارها بالشكل المطلوب بعيداً عن المخاطر مرهون بربانها ومدى براعتهم ومهارتهم في قيادتها ولما كانت هناك عوامل عدة في تأجيج الخلاف وإثارة الشحناء والبغضاء بين الناس وأشرت لبعض منها آنفا فإن في المقابل هناك عوامل تساهم في الوقوف جسراً منيعاً صلباً، تتكسر عليه محاولات إبليس اللعين وأعوانه وتئدها في مهدها بل وتجهض على الرذيلة وتقطع دابرها، وهذا يرتكز في المقام الأول على مخافة الله سبحانه وتعالى وهو الحق والعدل سبحانه وحرم الظلم على نفسه وجعله على عباده محرماً { وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}، ثم سلك الطرق السهلة والميسرة في العيش الكريم الذي يكتنفه الشرف والعزة ويكسوه السؤدد وتحفه العدالة من كل جانب منضوياً تحت لواء المحبة ومحاطاً بالوئام، كيف لا وتجنب الظلم طاعة للرحمن وما يغذي في روح الإنسان العدالة والابتعاد عن الإساءة هو الهدوء في وشاح الرزانة والرصانة متألقاً كأنه بدر يضيء كل ليلة ويسطع في سماء المودة ويزداد ضياءه لمعاناً وبريقاً كلما همس اللسان بكلمة جميلة رقيقة وكلما تم غض الطرف عن تجاوزات طفيفة حينها فإن الاتزان سيسجل حضوره والالتحام سيجبر كسوره في حلة بهية من الترفع والنقاء وهذه من صفات النبلاء، اذن فلنمسك بالهدوء قبل أن يفلتنا ولنكبح جماح النفس قبل أن تهلكنا ونزيد في الخير ما استطعنا ونحذر من الوقوع في الإثم وفقاً لما قدرنا فلنستشعر قبل أن نقرر ونتدبر قبل أن نتهور وليكن شعارنا (العفو عند المقدرة) والتسامح يسبق المعذرة {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.
جعلنا الله وإياكم ممن تشملهم هذه الآية الكريمة إنه جواد كريم.
منقول