الخلق بين النطفتين
الخلق بين النطفتين
وانطلاقًا من هذه الحقائق العلمية الناصعة في كل من كتاب الله ـ تعالى ـ وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإن علماء المسلمين كانوا على يقين منها في الوقت الذي ظل علماء الغرب يتخبطون في ظلمة من الأساطير والخرافات على مدى عشرة قرون كاملة أو يزيد حتى وصلوا إلى شيء من التصور البدائي لتلك الحقائق, ولم يستكملوا رؤيتها إلا في العقود المتأخرة من القرن العشرين.
أخرجه أحمد في مسنده حديث رقم 4206:
حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ حَدَّثَنَا أَبُو كُدَيْنَةَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ مَرَّ يَهُودِيٌّ بِرَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَهُوَ يُحَدِّثُ أَصْحَابَهُ فَقَالَتْ قُرَيْشٌ يَا يَهُودِيُّ إِنَّ هَذَا يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ فَقَالَ لأَسْأَلَنَّهُ عَنْ شَيْءٍ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا نَبِيٌّ قَالَ فَجَاءَ حَتَّى جَلَسَ ثُمَّ قَالَ يَا مُحَمَّدُ مِمَّ يُخْلَقُ الْإِنْسَانُ. قَالَ: " يَا يَهُودِيُّ مِنْ كُلٍّ يُخْلَقُ مِنْ نُطْفَةِ الرَّجُلِ وَمِنْ نُطْفَةِ الْمَرْأَةِ فَأَمَّا نُطْفَةُ الرَّجُلِ فَنُطْفَةٌ غَلِيظَةٌ مِنْهَا الْعَظْمُ وَالْعَصَبُ وَأَمَّا نُطْفَةُ الْمَرْأَةِ فَنُطْفَةٌ رَقِيقَةٌ مِنْهَا اللَّحْمُ وَالدَّمُ "فَقَامَ الْيَهُودِيُّ فَقَالَ هَكَذَا كَانَ يَقُولُ مَنْ قَبْلَكَ.
الحديث الثالث: ما من كل الماء يكون الولد:
رواه الإمام مسلم في مسنده في كتاب النكاح حديث رقم 2605:
حدثني هارون بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي مُعَاوِيَةُ يَعْنِي ابْنَ صَالِحٍ عَنْ علي بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَبِي الْوَدَّاكِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ سَمِعَهُ يَقُولُ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَنِ الْعَزْلِ. فَقَالَ: " مَا مِنْ كُلِّ الْمَاءِ يَكُونُ الْوَلَدُ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ خَلْقَ شَيْءٍ لَمْ يَمْنَعْهُ شَيْءٌ ". حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْبَصْرِيُّ حَدَّثَنَا زَيْدُ ابْنُ حُبَابٍ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ أَخْبَرَنِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ الْهَاشِمِيُّ عَنْ أَبِي الْوَدَّاكِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ ـ وَسَلَّمَ بِمِثْلِهِ.
ورواه أحمد في مسنده حديث رقم 11450:
حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عُبَيْدٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي الْوَدَّاكِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَنِ الْعَزْلِ فَقَالَ: " لَيْسَ مِنْ كُلِّ الْمَاءِ يَكُونُ الْوَلَدُ إِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَخْلُقَ شَيْئًا لَمْ يَمْنَعْهُ شَيْءٌ ".
روى الإمام مسلم بسنده أن يهوديًا مر بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو يحدث أصحابه فقالت قريش: يا يهودي إن هذا يزعم أنه نبي, فقال اليهودي: لأسألنه عن شيء لا يعلمه إلا نبي, فقال : يا محمد, مم يخلق الإنسان؟، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " يا يهودي, من كلٍ يُخلَق, من نطفة الرجل ومن نطفة المرأة ". فقال اليهودي : هكذا كان يقول من قبلك. (أي: من الأنبياء).
وروى الطبراني بسنده عن مجاهد ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " ما خلق الله الولد إلا من نطفة الرجل والمرأة جميعًا ".
وروى الإمام مسلم بسنده أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: " ما من كل الماء يكون الولد, وإذا أراد الله خلق شيء لم يمنعه شيء ".
هذه الحقائق العلمية التي تقع من علم الأجنة في الصميم، والتي لم تعرف مبادئها الأولية إلا في نهايات القرن الثامن عشر الميلادي, واستغرقت أكثر من قرنين من الزمن حتى تستقر في وجدان علماء الأجنة, تحدث عنها خاتم الأنبياء والمرسلين ـ صلى الله عليه وسلم ـ بهذه الدقة العلمية, والإحاطة الشمولية منذ مطلع القرن السابع الميلادي, أي: قبل أن يصل إليها العلم المكتسب بأكثر من عشرة قرون كاملة.
فحتى نهاية القرن الثامن عشر الميلادي كان الناس يعتقدون أن الإنسان يخلق جسمه كاملاً بأبعاد متناهية في الصغر من دم الحيض, وبعد اكتشاف بويضة الأنثى قالوا بأن الإنسان يخلق كاملاً فيها كما يخلق فرخ الدجاجة في بيضتها, ولكن بعد اكتشاف الحيوان المنوي نادوا بأن الجنين يخلق كاملاً في رأس ذلك الحيوان على الرغم من ضآلته, ولم ينته الجدل بين أنصار كل من هذه التصورات الخاطئة إلا في نهاية القرن الثامن عشر الميلادي حين اكتشفت أهمية كل من الحيوان المنوي والبويضة في عملية تكون البويضة الملقحة التي ينشأ عنها الجنين, ولم يتم الاتفاق على ذلك إلا في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي.
وفي القرن العشرين ثبت لعلماء الأجنة أنه من بين ملايين النطف الذكرية ـ الحيوانات المنوية ـ التي تنزل في الدقيقة الواحدة لا يصل منها إلى قناة الرحم إلا خلاصة لا يتعدى عددها الخمسمائة, يتمكن واحد منها فقط من اختراق البويضة ـ النطفة الأنثوية ـ فيتم تلقيحها وتكوين النطفة الأمشاج التي وصفها الحق ـ تبارك وتعالى ـ في محكم كتابه, والبويضة هي أيضاً جزء من ماء المرأة, وهنا تتضح لمحة من لمحات الإعجاز العلمي في قول المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "ما من كل الماء يكون الولد".
وهذه الأحاديث النبوية الشريفة مُؤَيَّدة بقول الحق ـ تبارك وتعالى ـ:
" وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ . ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ . ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا العِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ " (المؤمنون:12– 14).
وبقوله ـ عز من قائل ـ:
" هَلْ أتى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً . إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً " (الإنسان:1, 2).
وقوله ـ سبحانه وتعالى ـ:
" يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ " (الحجرات:13).
وقوله ـ تعالى ـ:
" يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ البَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً " (الحج:5).
وانطلاقًا من هذه الحقائق العلمية الناصعة في كل من كتاب الله ـ تعالى ـ وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإن علماء المسلمين كانوا على يقين منها في الوقت الذي ظل علماء الغرب يتخبطون في ظلمة من الأساطير والخرافات على مدى عشرة قرون كاملة أو يزيد حتى وصلوا إلى شيء من التصور البدائي لتلك الحقائق, ولم يستكملوا رؤيتها إلا في العقود المتأخرة من القرن العشرين.
فهذا ابن حجر العسقلاني ـ رحمه الله ـ يقول في شرح الحديث الشريف الذي نحن بصدده, وما يرتبط به من أحاديث في نفس الباب ما نصه:
" ويزعم كثير من أهل التشريح أن مني الرجل لا أثر له في الولد إلا في عقده, وأنه إنما يتكون من دم الحيض, وأحاديث الباب تبطل ذلك ".
ويؤكد هذا الكلام ابن القيم ـ يرحمه الله ـ بقوله في كتابه المُعَنْوَن " التبيان في علوم القرآن " ما نصه:
" ومني الرجل وحده لا يتولد منه الولد ما لم يمازجه مادة أخرى من الأنثى ".
هذا السبق بعدد من الحقائق العلمية في كلٍ من كتاب الله, وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لكل المعارف المكتسبة بعشرة قرون أو يزيد لا يمكن تفسيره إلا بكون القرآن الكريم كلام الله الخالق, وكون هذا النبي الخاتم, والرسول الخاتم موصولاً دائماً ومُؤَيَّداً بوحي السماء.
فصلى الله وسلم وبارك عليه, وعلى آله وصحبه, ومن تبع هداه إلى يوم الدين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
د. زغلول النجار