الحمد لله و الصَّلاة و السلام على رسول الله -صلى الله عليه و سلّم-، وبعد : إنّ الَمَرْء لا يَكُونُ مُؤمِنًا حَقًّا حَتَّى يُؤْمِن بأنّ الدّينَ الإِسْلاَمِيّ عَقِيدةٌ و شَرِيعَة وَ مَنْهَجُ حَيَاة، و أَنَّه يَجِبُ عَلَيْه أَن يَأْخُذَهُ كُلّه و لا يُجَزِّؤه، أمّا أن يَتَخَيَّرَ لِنَفْسِه ما يَهْواهُ و يَتْرُكَ الباقي فلا و الله، قال تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}[البقرة:58] .
مَنْ أَوْجَبَ عَلَيْك الدِّين؟
إنّ المُسلِم لَيَعْلَمُ عِلْمَ اليَقِينِ بأنّ ما وُجِب عليه، و ما فُرِضَ عَلَيْه مِنْ أُمورِ دِينِه لم يَفْرِضْهُ عَلَيْه شَخْص : زَيْدٌ أو عُمَرو، أو جَمَاعَة، أَوْ حِزْب، و لَكِن الَّذِي فَرَضَهُ عَلَيْه هو رَبُّهُ و خالِقُه الَّذِي لَهُ الخَلْقُ و الأَمْرُ، نَعَمْ إِنَّه الله الَّذِي هو مَعْبودُه و محبوبُه، و لِهَذَا كان الفَرْدُ المُسْلِم دَائِمًا مُطْمَئِنًّا و مُسْتَسْلِمًا و مُنْقادًا لِتِلْك التَّشْريعات لِأَنّها صادِرَة مِنْ عِنْدِ الله تعالى. و كان هَذَا الفَرْدُ يَعْتَبِرُ نَفْسَهُ مُسْلِمًا. وَ مَا مَعْنى مُسْلِم ؟ أَيْ مُسْتَسْلِمٌ لأَوامِرِ الله. وَ بِالمُقابِلِ فَهُوَ يَعْلَمُ أيْضًا أنّ كُلّ رَفْضٍ وَ كُلّ اسْتِنْكارٍ لِتِلْكَ التّشْريعات، إنَّما هو انقِلابٌ و رَدٌّ و رَفْضٌ لأحْكامِ الله جلّ و علا، و مِنْ هُنَا أقول : مَنِ الَّذِي أوْجَبَ التستُّر ؟
اللهُ هُو مَنْ أَمَرَ بِسَتْرِ العَوْرَات
لَقَد امْتنَّ اللهُ على البَشَرِيّةِ جَمْعاء -كافِرَهم و مُسْلِمَهم- أن أَنْزَلَ عَلَيْهِمْ لِبَاسًا يَسْتُرونَ بِه عَوْراتهم، فَهُو إذًا نِعْمَةٌ مِن نِعَمِ اللهِ تَعَالَى على النَّاسِ، قال سُبْحَانَهُ : {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}[الأعراف:26] هذا في العُمومِ. أمّا بِالنِّسْبَةِ للحِجابِ، فَمَن هو الَّذِي أَمَرَهُ الله بِهِ؟
الله أَمَرَ الْمُؤْمِنات بِالحِجابِ؟
أَمَّا إذا جِئْنا إلى الحِجَابِ الإِسْلامِيّ، فَإِنَّ اللهَ لَمْ يَأْمُر بهِ إِلَّا الْمُؤْمِنات، قال تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا}[الأحزاب:59]، بالطّبع سَتَقولُ المُسْلِمة : أي و اللهِ أنا مِنَ الْمُؤْمِنات. و أنا أقولُ أَيْضًا : أَيْ و اللهِ نَحْسبك كَذَلِك، و لَكِن ألا يَجْدُرُ بِالمُؤْمِنةِ أن تَتَصَرَّفَ كالمُؤمِناتِ السَّابِقات حينَ أُمِرْنَ بِالحِجابِ قَالَتْ عَائِشَة -رَضِي الله عنها- :"رَحِمَ اللهُ نِسَاءَ الأَنْصَار لمَّا نَزَلَت {يَا أَيُّها النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ}شَقَقْنَ مُروطَهُنَّ(1) فاعتَجَرْنَ(2) به و صَلَّيْنَ خَلْفَ رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه و سلّم- كَأَنّما على رُؤوسِهِنّ الغِرْبان(3)." [فتح القدير للشّوكاني (4\307)] فإنّ المُؤمِنَ الحَقّ، هو ذَاكَ الَّذِي يَمْتَثَلُ أَمْرَ رَبِّه و لاَ يَرُدُّهُ لِسَبَبٍ مِنَ الأَسْبَابِ، قَالَ تَعَالَى :{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا}[الأحزاب:36] فإذا كَانَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَمَرَ بِالحِجَابِ فَمَن الَّذِي أَمَرَ بالتَعَرِّي إذًا ؟
الشَّيْطَان هُوَ مَنْ أَمَرَ بِالتعَرّي!
نَعَمْ إنّ الشَّيْطَانَ هُوَ مَنْ كَانَ وَرَاءَ نَزْعِ لِباس بني آدَمَ كَمَا نَزَعَهُ عَنْ أبِيهِم آدَمَ و أُمِّهِم حوّاء، حَيْثُ أوْقَعَهُما في فَخٍّ نَصَبَهُ لَهُمَا مِن أجْلِ أَنْ يَنْزَعَ عَنْهُما لِباسَهُما، وَ لِهَذَا حَذَّرَنا رَبُّنا مِن السّقوطِ في فَخِّهِ وَ مَكْرِهِ، قال تَعَالَى : {يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ}[الأعراف:27]. لَقَدْ كَانَ التعَرّي عُقوبَة مِنَ اللهِ تَعَالَى سَبَبُهُ عِصْيَانُ أَمْرِه و السَّيْر على خُطَى الشَّيْطانِ، وَ لِذَلِكَ لا يَزال التَكَشُّف و التَّبرُّج مِنْ وَرَاءِ المَعْصِيَة و ضُعْف الإيمانِ و ذهابُ الْخَوْف مِنَ الرَّحْمَن، فَهُوَ لا يَفْعَلُهُ إِلَّا العُصَاة.
أَحِجَابُ التُّرابِ خَيْر أَمْ حَجَابُ التَّقْوى؟
هَلْ نَسِيتِ أَمَةَ اللهِ رَبَّكِ الَّذِي أنْقِذَكِ مِنْ حِجَابِ التُّرابِ ؟!!! أَلَمْ تَعْلَمي أَنَّ كُفَّارَ قُرَيْش كَانُوا يَدْفُنونَكِ في التُّرابِ و أَنْتِ حَيَّة بِسَبَبِ غَيْرَتِهِم المُفْرِطة، و خَوْفًا على العَار الَّذِي يُصِيبُهُم إذا ما وَقَعْتِ أسِيرَةً في يَدِ عَدُوِّهِم فتُصْبِحينَ أَمَةً عِنْدَهُم ... فَكَانُوا يفضلون لَكِ حِجَابَ التُّرابِ فَلَا تَظْهَرينَ بَعْدَها وَ إِلى أَبَدِ الآبِدين ! حتّى جَاءَ الإِسْلامُ و أَنْقَذَ حَياتَكِ، فقال اللهُ تَعَالَى : {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ، بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ}[التّكوير:9،8] ، ثُمَّ أَرْشَدَهُم إلى الحِفاظِ عَلى شَرَفِهِم و عَلَى عِرْضِهِم، بحِجَابٍ خَفيفٍ لَيْسَ كالتُّرابِ، مَصْنُوع مِنْ قُماشٍ مع الإِبْقاءِ عَلى حياتِكِ وَوُجودِكِ مع أهلِكِ و أحْبابِكِ، لِتَزْهُوَ الْحَيَاةُ بِكِ و تعمر ...، ألَيْسَ هَذَا أَفْضَل و أَرْحَم بِك ؟ فَهَلْ بَعْدَ هَذَا كُلّه يَثْقُلُ عَلَيْكِ لَبْس الحِجَابِ ؟ أَوْ تَتَمَرَّدينَ عَلَى رَبِّك، مُنْقِذكِ و راحِمكِ، وَ تَصِفِين الحِجَابَ بأَنَّهُ وَأْدٌ لَكِ و سِجْنٌ و ظُلْمٌ و...و...
لِمَاذَا إِذًا لَا تَتَحَجَّبين؟
ما هِيَ الأسْبَابُ الّتي جَعَلَتْكِ تُخالِفينَ أَمْرَ رَبِّك في الحِجَابِ ؟ تَعَالي وَلْتَكُن الصَّراحَة بَيْني و بَيْنَكِ، نُناقِشُ بَعْضًا مِنْ هَذِهِ الأَسْبَاب أَوْ قَولِي أَعْذَارًا.
1-رُبّما تَقولين:لَسْتُ مُقْتَنِعَةً بِه. فأَقول: وَ هَلْ قَدَّمْتُ لَكِ تِلْكَ المُقَدِّمات، و ما سَأُقَدِّمُهُ لَكِ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا مِنْ أَجْلِ إِقْناعك بِه، فأَسْأَلُ المَوْلَى تَعَالَى أَنْ يُمَكِّنَني مِنْ ذَلِك. ثُمَّ أَقُولُ أَيْضًا: إذا كِنْتِ -يا أَمَةَ اللهِ- مُقْتَنِعة بالإسْلامِ و مُقْتَنِعة بالرّسول و مُقتَنِعة بالقُرآن، فَإِنَّ الإسْلامَ فَرَضَ الحِجَاب، و إنّ الرَّسولَ -صَلَّى الله عَلَيْه و سلّم- أَمَرَ بِالحِجابِ بَلْ إنَّهُ -صَلَّى الله عَلَيْه و سلّم- لَعَنَ المُتَبَرِّجات(4) حَيْثُ قال : ((صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا : قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ ، وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ ، مُمِيلاَتٌ مَائِلاَتٌ ، رُءُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ ، لاَ يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلاَ يَجِدْنَ رِيحَهَا ، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا))[رواه مسلم]، فَلَوْ بَقَيْت عَلَى هَذَا الحال (تكونين على خَطَرِ دُخول النَّار))[رواه مسلم] !!! أَفَلَا يَكُونُ هذا الحَديثُ مُقْنِعًا لارْتِدائك الحجاب أَمْ أَنَّهُ النِّفَاقُ و الكَذِب و التَّحايُل ؟ وَ لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ صِفاتِ الْمُؤْمِنِينَ في شَيْء، قال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا، وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[النور:51]، هذه وَاحِدَة أمّا الأُخْرى .
(1) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله : "قوله : (مروطهن) : جمع مرط ، وهو الإزار،" " فتح الباري " ( 8 / 490 ) .
(2) الاعتجار: هو الاختمار، فمعنى: فاعتجرن بها، واختمرن بها: أي غطين وجوههن.
(3) (كَأَنَّ على رُؤوسِهِنَّ الغِرْبان(أي: جَمْع: غُرَاب))قال العباد في شرح سنن أبي داود: يعني من حيث اللون، ولون الغِربان أسود، ولون الخُمُرِ التي كانت عليهِنَّ كذلك. اهـ.
(4) قال -صلى الله عليه وسلم-: ((سَيَكُونُ آخَرَ أُمَّتِي نِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ ، عَلَى رُءُوسِهِنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ ، الْعَنُوهُنَّ ، فَإِنَّهُنَّ مَلْعُونَاتٌ)) [ضعيف]
(11) ذَكَرَ إسم مُمثّلة فرنسيّة من الكبار في التسعينيات، اشتهرت بفسقها الشديد و حبّها لنفسها، اعتدت على الإسلام و المسلمين، قالت إن الجالية المسلمة " تدمر بلدنا وتفرض تصرفاتها علينا"، و أَيْضًا طالبت بمنع ذبح الأضاحي بِحُجَّة حقوق الحيوان. (12) ذَكَرَ إِسْمَ ممثلة سينمائية تُعْتَبَر أسطورة في السينما ظهرت في التسعينيّات، مشهورة بصُوَرِها الخليعة، و كلا الكافرتين، كانتا مشهورتين بجسمهما بعرضه و التمرّن و الحميات لتكون لهم الصورة المُغرية الجذابة. و قد أعطاهم الله ما تمنّوا، و كما قال تعالى{ إنما نملي لهم ليزدادوا إثما}، و قال{ أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون }. نسأل الله العافية
(13) مُصطَلَح جًزائِري: يُسْتَعْمل للدلالة على أن المَظْهر (اللحية، الحجاب...) و العمل (الصلاة....) لا تهم، إنما الذي يَهُمّ هو ما يوجد في الْقَلْب، و هذا هو الجهل المبين.