إن رسولنا الكريم عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم هو أفضل الخلق أجمعين، وقد زكى الله خُلُقه، فقال: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) وزكى لسانه، فقال: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى) وشرح له صدره، ووضع عنه وزره، ورفع له ذكره، وجعل الذل والصغار على من خالف أمره، وجعل له المقام المحمود والحوض المورود وحث المؤمنين على اتباعه والاقتداء به، فقال - سبحانه -: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) وقال - سبحانه -: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا). وقد كان هذا النبي الكريم أحسن خلق الله في دعوته، وقد أوتي ما لم يؤت غيره من الأساليب المتنوعة في الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولذلك أثر في الناس ثأثيراً لم يعهد، وفي هذه الكلمات القلائل أردت أن أجمع من حسن أسلوبه وعجيب منطقه ما ييسر الله جمعه لكي يختار المحتسب منها ما يناسب مدعويه فإن لكل مقام مقال؛ فمن تلك الأساليب التي طبقها المصطفى - صلى الله عليه وسلم - حال احتسابه: • أسلوب التحذير بكلمة (إيَّا) مضافة لضمير الخطاب: فنجده - صلى الله عليه وسلم - نوع خطابه وإنكاره بها فتارة ينهى المفرد المخاطب كما في قصة ضيافة أبى الهيثم بن التيهان الأنصاري - رضي الله عنه - لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى رجلا من الأنصار فأخذ الشفرة ليذبح لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إياك والحلوب))[1] أي: احذر أن تذبح شاة لبن. وتارة أخرى ينكر به على المفردة المؤنثة كما في حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا عائشة إياك ومحقرات الأعمال؛ فإن لها من الله طالبا)) [2] والمحقرات صغائر الذنوب التي لا تستعظم ومالا يبالي المرء بها فلا يتحرز عنها فإنها تؤدي إلى ارتكاب كبائرها [3]. وتارة يستخدم هذا الأسلوب في خطاب الجماعة ومنه: حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((إياكم والشح فإنما هلك من كان قبلكم بالشح أمرهم بالبخل فبخلوا وأمرهم بالقطيعة فقطعوا وأمرهم بالفجور ففجروا)) [4] أي: احذروا الشح وهوالبخل مع الحرص [5]. ومنه أيضاً: حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إياكم والجلوس على الطرقات فقالوا ما لنا بد إنما هي مجالسنا نتحدث فيها قال فإذا أبيتم إلا المجالس فأعطوا الطريق حقها قالوا وما حق الطريق قال غض البصر وكف الأذى ورد السلام وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر))[6] ومنه كذلك: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تباغضوا وكونوا إخوانا))[7] وحديث عقبة بن عامر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إياكم والدخول على النساء)) فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله أفرأيت الحمو؟ قال: ((الحمو الموت)). [8] وقد يجيء بهذا اللفظ مكرراً كما في حديث أبى هريرة - رضي الله عنه - عن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ولا يغل أحدكم حين يغل وهو مؤمن فإياكم إياكم))[9] • التصريح باسم من ينكر عليه: في بعض حالات الاحتساب يحتاج فيها إلى أن يُذكَر اسم المحتَسب عليه إما لاشتهار المنكر عنه أو لكونه في محضر من الناس والإنكار عليه حال وقوع المنكر أو غير ذلك من الأسباب ومما جاء في سنة سيد المحتسبين من ذلك: إنكاره على معاذ بن جبل - رضي الله عنه - حينما طول في صلاته فعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - أن معاذ بن جبل كان يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يأتي قومه فيصلي بهم الصلاة فقرأ بهم البقرة قال: فتجوز رجل فصلى صلاة خفيفة فبلغ ذلك معاذا فقال: إنه منافق فبلغ ذلك الرجل فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إنا قوم نعمل بأيدينا ونسقي بنواضحنا وإن معاذا صلى بنا البارحة فقرأ البقرة فتجوزت فزعم أني منافق فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يا معاذ أفتان أنت ثلاثا اقرأ والشمس وضحاها، وسبح اسم ربك الأعلى، ونحوها)) [10] وصرح النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضاً باسم أبي ذر - رضي الله عنه - حينما عير بلالاً - رضي الله عنه - بأمه [11] فعن المعرور بن سويد قال: مررنا بأبي ذر بالربذة وعليه برد وعلى غلامه مثله فقلنا: يا أبا ذر لو جمعت بينهما كانت حلة فقال: إنه كان بيني وبين الرجل من إخوتي كلام وكانت أمه أعجمية فعيرته بأمه فشكاني إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فلقيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((يا أبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية)) قلت: يا رسول الله من سب الرجال سبوا أباه وأمه قال: ((يا أبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديهم فأطعموهم مما تأكلون وألبسوهم مما تلبسون ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم))[12] وممن صرح باسمه حال إنكاره عليه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ففي حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - الطويل في إيلاء النبي - صلى الله عليه وسلم - من نسائه: "...فقلت ادع الله يا رسول الله أن يوسع على أمتك فقد وسع على فارس والروم وهم لا يعبدون الله فاستوى جالسا، ثم قال: ((أفى شك أنت يا ابن الخطاب أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم فى الحياة الدنيا)) فقلت: استغفر لى يا رسول الله" [13]. ومن هذه الأحاديث وغيرها يعلم جواز التصريح باسم مرتكب المنكر لغرض شرعي صحيح. • إبهام اسم فاعل المنكر: في كثير من الأحيان قد لا يستدعي الحال ذكر من فعل المنكر لكونه من ذوي الهيئات مثلاً أو لا غرض في ذكر اسمه ولا فائدة منه أوقد يستحيا منه ففي مثل هذه الحالات يحسن ذكر الفعل المستنكر دون اسم فاعله فيحصل المطلوب من إنكار المنكر وعدم التشهير بقائله ومن ذلك: حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه. فلما قضى الصلاة أقبل على القوم بوجهه فقال: ((ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء)) حتى اشتد قوله في ذلك: ((لينتهن عن ذلك أو ليخطفن الله أبصارهم))[14]، ومنه أيضاً: إنكاره على ابن اللتبية حين بعثه مصدقاً فعن أبى حميد الساعدى قال استعمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلا من الأسد يقال له ابن اللتبية - قال عمرو وابن أبى عمر على الصدقة - فلما قدم قال: هذا لكم وهذا لى أهدى لى قال فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال: ((ما بال عامل أبعثه فيقول هذا لكم وهذا أهدى لى. أفلا قعد فى بيت أبيه أو فى بيت أمه حتى ينظر أيهدى إليه أم لا والذى نفس محمد بيده لا ينال أحد منكم منها شيئا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه بعير له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر)) ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتى إبطيه ثم قال: ((اللهم هل بلغت)) مرتين[15]. ومن ذلك أيضاً: انكاره على موالي بريرة - رضي الله عنها - حينما أرادوا اشتراط الولاء لهم؛ فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: دخلت على بريرة فقالت: "إن أهلى كاتبونى على تسع أواق فى تسع سنين فى كل سنة أوقية. فأعينينى"، فقلت لها: "إن شاء أهلك أن أعدها لهم عدة واحدة وأعتقك ويكون الولاء لى فعلت". فذكرت ذلك لأهلها فأبوا إلا أن يكون الولاء لهم فأتتنى فذكرت ذلك قالت فانتهرتها فقالت: لاها الله إذا قالت. فسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألنى فأخبرته فقال: ((اشتريها وأعتقيها واشترطى لهم الولاء فإن الولاء لمن أعتق)). ففعلت - قالت - ثم خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشية فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: ((أما بعد فما بال أقوام يشترطون شروطا ليست فى كتاب الله ما كان من شرط ليس فى كتاب الله - عز وجل - فهو باطل وإن كان مائة شرط كتاب الله أحق وشرط الله أوثق ما بال رجال منكم يقول أحدهم أعتق فلانا والولاء لي إنما الولاء لمن أعتق))[16]. وللحديث بقية، والله أعلم. ____________________ [1]: صحيح مسلم 6/116 [2]: سنن ابن ماجه2/1417 صححه الألباني في السلسة الصحيحة برقم (513) [3]: فيض القدير 3/127 [4]: سنن أبي داوود2/61وقال الألباني: صحيح [5]: الفروق اللغوية 1/295 [6]: صحيح البخاري6/270وصحيح مسلم 6/165 [7]: صحيح البخاري 13/54 [8]: صحيح مسلم 7/7 [9]: صحيح مسلم1/55 [10]: صحيح البخاري 15/331 وصحيح مسلم 2/41 [11]: فتح الباري 1/49 [12]: صحيح البخاري 5/2248 وصحيح مسلم3/1282 [13]: صحيح مسلم 4/193 [14]: صحيح البخاري 2/161وصحيح مسلم 2/29 [15]: صحيح البخاري6/480 و صحيح مسلم 6/11واللفظ له. [16]: صحيح البخاري 7/106صحيح مسلم 4/ 214واللفظ له.
الهدي النبوي في الاحتساب 1- ناصر أحمد العاهمي
موضوع: الهدي النبوي في الاحتساب 1- ناصر أحمد العاهمي
