السؤال : مستأجر فقير عرض على مؤجر استئجار منزﻻ لمدة سنة بمبلغ ألف دوﻻر تدفع مقدما، مبينا أن حاجته للسكن أولى من غيرها ، وأن اﻻستئجار في هذا المنزل وبهذا السعر يناسبه ، مما يعني أنه هو من يريد ذلك ، وﻻ يوجد حظر على إرادته ، بحيث يقال : إنه لو دفعت إليه الزكاة نقودا كان يمكن أن يصرفها في غرض آخر أصلح له ، أو يستأجر بها منزﻻ آخر ، فلم يصدر من المؤجر قبول ، مما يعني أن هذه الصورة ليست من صور إسقاط الدين على الفقير المعسر ، حيث إنه لم يبرم عقد إيجار بعد ، ولم يسلم المنزل إلى المستأجر ، وبالتالي لم يترتب في ذمته دين يراد إسقاطه ، وإنما أوضح المؤجر أنه سيقدم له أي للمستأجر باعتباره يستحق الزكاة منفعة السكنى في المنزل المشار إليه للمدة المطلوبة بالمجان ، على أن يعد ذلك من زكاة ماله ، أي مقابل خصم قيمة هذه المنفعة الألف دوﻻر من مبلغ زكاة وجبت على المؤجر ، فقبل المستأجر بذلك متفقا معه على أن يقوما قبل ذلك بطلب فتوى بالخصوص بشأن مدى جواز ما سيفعلانه ، أي هل يجوز إخراج الزكاة في صورة منفعة أو خدمة مجانية تقدم للفقير بنية الزكاة بضوابط شرعية توضع لذلك ؟
الجواب : الحمد لله أولا: إذا كان المستأجر لا يملك أجرة مسكن، فهو فقير يجوز دفع الزكاة إليه. ولا حرج أن يعطيه المال، دون أن يشترط عليه السكن عنده، بل يقول له: هذا المال لك لتسكن به، فابحث عن سكن يناسبك، فإن استأجر منه ، بعد ذلك ، ودفع له هذا المال بعينه ، أجرة لمسكنه : فلا حرج. وهذه الصورة لا إشكال فيها . ثانيا: لا يجوز إخراج الزكاة منفعة على المذاهب الأربعة. أما الحنفية: فلأنهم لا يرون المنفعة مالا، وهم مع تجويزهم إخراج القيمة في الزكاة ، منعوا إخراجها منفعة. وأما الجمهور: فلأنهم يمنعون إخراج القيمة في الزكاة، فمن عنده نقود تجب فيها الزكاة يجب أن يخرج زكاتها نقودا. وإليك بيان ذلك.
قال ابن عابدين رحمه الله: "وقدمنا أول البيوع تعريف المال ، بما يميل إليه الطبع ويمكن ادخاره لوقت الحاجة، وأنه خرج بالادخار: المنفعة، فهي ملك لا مال؛ لأن الملك ما من شأنه أن يتصرف فيه بوصف الاختصاص كما في التلويح، فالأولى ما في الدرر من قوله: المال موجود يميل إليه الطبع إلخ فإنه يخرج بالموجود: المنفعة فافهم. ولا يَرد أن المنفعة تملك بالإجارة؛ لأن ذلك تمليك لا بيع حقيقة، ولذا قالوا: إن الإجارة بيع المنافع حكما: أي إن فيها حكم البيع وهو التمليك، لا حقيقته، فاغتنم هذا التحرير" انتهى من حاشيته على الدر المختار (5/ 51).
وفي منعهم إخراج الزكاة منفعة: قال ابن نجيم رحمه الله: "والمال كما صرح به أهل الأصول: ما يتمول ويدخر للحاجة، وهو خاص بالأعيان، فخرج تمليك المنافع. قال في الكشف الكبير في بحث القدرة الميسرة: الزكاة لا تتأدى إلا بتمليك عين متقومة ، حتى لو أسكن الفقير داره سنة بنية الزكاة : لا يجزئه؛ لأن المنفعة ليست بعين متقومة. اهـ. وهذا على إحدى الطريقتين، وأما على الأخرى من أن المنفعة مال، فهو عند الإطلاق منصرف إلى العين" انتهى من البحر الرائق (2/ 217).
وقال علاء الدين البخاري رحمه الله: " قوله (ولهذا لا يتأدى الزكاة) أي : ولأن الزكاة وجبت لمعنى الإغناء ؛ [والإغناء] لا يتأدى إلا بعين متقومة، أي بتمليك عين متقومة، حتى لو أسكن الفقير داره سنة بنية الزكاة : لا يجزيه؛ لأن المنفعة ليست بعين متقومة، وكذا لو أباحه طعاما بنية الزكاة، فأكله الفقير: لا يجزيه عن الزكاة؛ لأنه أكل مال الغير، وبه لا يحصل الغنى . قال أبو اليسر: الزكاة شرعت لإغناء الفقير، لقوله - عليه السلام -، «أغنوهم» ، والواجب فيها هو الإغناء الكامل ، وهو تمليك مال محترم متقوم ، بلا نقصان في نفسه" انتهى من كشف الأسرار شرح أصول البزدوي (1/ 209) .
وأما منع الجمهور إخراج القيمة في الزكاة : فمشهور. قال النووي رحمه الله: "قد ذكرنا أن مذهبنا أنه لا يجوز إخراج القيمة في شئ من الزكوات، وبه قال مالك وأحمد وداود إلا أن مالكا جوز الدراهم عن الدنانير وعكسه. وقال أبو حنيفة: يجوز" انتهى من المجموع (5/ 429). ثالثا: على القول بجواز إخراج القيمة للمصلحة ، كما هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، لا يظهر جواز إخراج المنفعة ، هنا ؛ لأمور: الأول: أن الزكاة ( إيتاء) ، وهذا يتحقق بإخراج النقود والأعيان، بخلاف المنافع. والثاني: أنه لا قائل بذلك فيما نعلم، فلا وجه للتوسع في هذا الأمر ومخالفة ما عليه المذاهب الأربعة دون دليل ظاهر ولا قول إمام معتبر. وينظر للفائدة : جواب السؤال رقم : (13901)، ورقم : (119113) . والله أعلم.